هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس أمير المؤمنين أبو جعفر الرشيد بن المهدي بن المنصور يقال له المظفّر والموفّق والمؤيّد وسمَّى هو نفسه الغازي الحاجّ وكتب ذلك على قلنسُوَة له كان شجاعاً كثير الحجّ والغزو وحجّ في خلافته ثماني حجج وقيل : تسع وغزا ثماني غزوات ولم يحجّ خليفة بعده وكان في أيّامه فتح هرقلة وماتت أمه الخَيزُران سنة ثلاث وسبعين فمشى في جنازتها وهو أخو الهادي موسى لأبويه ولذلك قال الثائل : .
يا خَيزُران هناكِ ثمّ هناك ... أمسَى العبادُ يسوسهم أبناك .
وكان طويلاً جسيماً مسمَّناً أبيض قد وَخَطَه الشيب مولده سنة سبع وأربعين ومائة في نصف شوال بمدينة الريّ وبويع له بمدينة السلام في شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة يوم مات الهادي وكان وليَّ العهد بعده وله يومئذ اثنتان وعشرين سنة ونصف وتوفي بطوس لإحدى عشرة ليلة من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة وله ست وأربعون سنة غير شهرين وجاء نعيُّه إلى مدينة السلام يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة فكانت مدة خلافته ثلاثاً وعشرين سنة وشهرين وستة عشر يوماً وكاتبه أبو علي يحيى بن خالد بن برمك ثم الفضل بن يحيى ثم جعفر أخوه ثم كتب له أبو العباس الفضل بن الربيع وإسماعيل بن صبيح وحاجبه بشر بن ميمون ثم محمد بن خالد بن برمك ثم الفضل بن الربيع مولاه ونَقشُ خاتمه " كن مع الله على حَذَر " وقيل كان نقش خاتمه بالحميريّة " الله ربي " وعلى خاتم الخلافة " لا إله إلا الله " وكان يحجّ سنة ويغزو سنة ولذلك قال فيه القائل : .
فمن يَطلُب لِقاءَك أو يُرِدهُ ... فَبِالحرمَينِ أو أقصَى الثُغورِ .
ففي أرضِ العدوِّ على طِمِرٍّ ... وفي أرض الثنيَّة فَوق كور .
وكان جواداً بالمال واعتمد على البرامكة في دولته فزيّنوها إلى أ أكثروا الدالّة عليه ففتك بهم ولكن ساء تدبيره للملك بعدهم وظهر الاختلال في دولته بعدهم وكان يقول : أَغرونا بهم حتى إذا هلكوا وجدنا فقدَهم ولم يسدّوا مَسَدّهم وكان فصيح المقال قال لإسحاق بن إبراهيم الموصلي وقد أنشده أبياتاً منها : .
وكيف أخافُ الفَقر أو أُحرَمُ الغِنى ... ورأيُ أمير المؤمنين جميلُ .
لله دَرُّ أبياتٍ تأتينا بها ما أحكمَ أصولَها واحسنَ فصولَها وأقلّ فضولها فقال إسحاق : أخذُ الجائزة مع هذا الكلام ظلمٌ وله شعر جيّد منه قوله في جارية صالحها : .
دَعِي عَدَّ الذُّنوب إذا التقينا ... تَعالَي لا نَعُدّ ولا تَعُدّي .
ومنه : .
مَلَك الثلاثُ الآنِساتُ عِناني ... وحَلَلنَ من قلبي يكلّ مكانِ .
مالي تُطاوِعُني البريّةُ كُلُّها ... وأُطيعُهنّ وهنّ في عِصياني ؟ .
ما ذاك إلاّ أنّ سلطانَ الهَوى ... وبه غلَبنَ أعزُّ من سلطاني .
وقيل إنها للعباس بن الأحنف قالها على لسان الرشيد ومن شعر الرشيد يرثي جاريته هيلانة : .
أفٍّ للدنيا وللز ... ينة فيها والأثاثِ .
إذ حثا التُّربَ على هي ... لانَ في الحُفرة حاثِ .
فلها تبكي البواكي ... ولها تشجي المراثي .
خلفتْ سُقمي طويلاً ... جعلت ذاك تُرابي