فما سمعوا نداء الرُقبا ولا منعوا حمى الوَقبى ولا قابلوا سهام القسيّ بوكورٍ من نحورهم ولا عاملوا ثعالب صدور الرماح بوِجار من صدورهم بل اتخذوا الليلَ لِسُراهم حملاً وعملوا الفرارَ لنفوسهم على رؤوسهم جَبَلاَ وسلكوا من وُعور الفجاج بفرارهم قبل مخالطة العَجاج سُبُلاً فتحكمت يدُ القتل والأسر في إبطال أطلابهم واستولت غَلَبَةُ النهب والسلب على أثقالهم وأسلابهم وتقسموا بين هَزيم وأسير وجريح وقتيل وانتُصِف منهم وانتًصر عليهم " ولمن انتصَرَ بَعدَ ظُلمِه - فأولئك مَا عَلَيهُم مِن سَبِيلٍ " وأسِرَ من معارفهم المذكورة ووجوههم المشهورة فلان وفلان . وأما النِكراتُ التي لا يدخُل عليها التعريف والأدنِياء التي لا يتطرق إليهم التشريف فجمعٌ يكثر عدده وبحرٌ يغزُر مَدده ولم يَنجُ منهم إلا من كان في عَنان فرسه تقديمٌ وفي كتاب أجله تأخير ولا سلم منهم الا من كان في هربه تطويل وفي طلبه تقصير خصوصاً مقدمهم . فإنه سار سيرة الحارث بن هشام وطلب النجاة لنفسه فنجا برأس طِمِرَّةٍ ولِجامٍ . وصيّره الناصر جندياً فقال : كنتُ كاتباً جيداً فصرت جندياً رديئاً ومن مَغايظ الدهر أنيّ أفنيتُ عمري في الكتابة فصرتُ إلى الجندية ولا أعرف منها شيئاً ونظم في ذلك : .
أليس من المغايظ أن مثلي ... يُقضي العُمر في فنّ الكتابهْ .
فيؤمر بعد ذلك باجتنابٍ ... لها فيرى الخُطوب عن الخطابه .
ويُطلَب منه أن يبقى أميراً ... يسدّد نحو من يلقَى حِرابه .
وحقك ما أصابوا في حديثي ... ولا لِيَ إن ركبتُ لهم إصابه .
ولما كان ببغداد خُرِّج للشعراء من عندِ المستنصر ذهبٌ على أيدي الحُجاب ولم يخرَّج إليه شيء فكتب إلى المستنصر : .
لما مدحتُ الإمامَ أرجو ... ما نال غيري من المواهب .
أجدتُ في مدحه ولكِن ... عُدت بجدِّي العَثور خائبْ .
فقال لي ما مدحوه لما ... فازوا وما فُزتُ بالرغائب .
لِم أنت فينا بغير عينٍ ... قلتُ لأني بغير حاجب .
ومن شعره : .
وعِلقٍ نفيسٍ تعلقتُه ... فزار على خلوةٍ وارتياع .
ولم يبق في المُرد إلا كما ... يقال على أكلةٍ والوداع .
فعاجلتُه عن دخول الكنيف ... بشحٍّ مُطاعٍ ورأيٍ مُضاع .
فغرَّقني منه نَوء البُطين ... ورواه مني نوء الذِّراع .
ومنه : .
على وَرد خَدَّيه وآسِ عِذاره ... يليق بمن يهواه خَلع عِذارِهِ .
وأبذلُ جُهدي في مُدارِاةِ قَلبه ... ولولا الهوَى يقتادُني لم أُدارِه .
؟ أرى جنةً في خَده غير أنني أرى جُلَّ نارِي شبّ مِن جُلنارِه .
كغُصن النقا في لِينه واعتداله ... ورئم الفلا في جِيده ونِفاره .
سكِرت بكأسٍ من رحيق رُضابه ... ولم أدر أنَ الموت عُقبى خُماره .
وكتب إلى بعض الملوك : .
لو شرحتُ الذي وجدتُ من الوَج ... د عليكم أمللتُكم ومللتُ .
فلهذا خفّفتُ عنكم ولو شِئ ... تُ أن أُطيلَ أطلت .
غير أنّ العَبيدَ تحمل عن قَل ... ب الموالي وهكذا قد فَعَلت .
وقال في مليح نحوي : .
بُليتُ بنحويٍّ يخالفُ رأيَه ... أواناً فيَجزيني على المدح بالمنعِ .
تعجبتُ من واوٍ تبدّتْ بصُدغه ... ولم يحظني منها بعطفٍ ولا جمع .
ومن ألفٍ في قدّه قد أمالها ... عن الوصل لكن لم يُملها عن القطع .
وقال : .
أيادٍ سمت آثارُها السحب فاغتدَت ... تُعاب إذا ما شُبهت بالسحائبِ .
فما الوعدُ منه بالطويل ولا ترى ... مَداه على حاكيه بالمتقارب .
منها : .
سُيوفٌ إذا صَلَّتْ سجدنَ رؤوسُهم ... لآثار خيلٍ شُبهت بالمحارب .
وقال أبو الحسين الجزار يمدح فخر القضاة ابن بصاقة : .
عفا الله عما قد جنته يَدُ الدهر ... فقد بذل المجهود في طَلَب العُذرِ .
أيحسُنُ أن أشكو الزمانَ الذي غَدت ... صنائعُه عندي تجلّ عن الشكر