فبلغ الرشيد ذلك فحلف أنَّها لا تذكره ؛ ثمَّ تسمَّع عليها يوماً فوجدها وهي تدرس آخر سورة البقرة حتَّى بلغت قوله تعالى " فإن لم يُصِبْها وابلٌ فَطَلٌّ " فلم تلفِظ به وقالت : فإن لم يصبها وابلٌ فما نهانا عنه أمير المؤمنين . فدخل الرشيد وقبَّل رأسها وقال لها : لقد وهبت لك طلاًّ ولا منعتكِ بعد هذا عمَّا تريدين منه . ذكر ذلك الصولي .
وكانت عُلَيَّة من أعفّ الناس ؛ كانت إِذا طهرت لزمت المحراب وإذا لم تكن طاهرة غنَّتْ . ولمَّا خرج الرشيد إلى الرَّيّ أخذها معه فلمَّا وصل إلى المرج بها نظمت قولها : .
ومغتربٍ بالمرج يبكي لشجوه ... وقد غاب عنه المسعِدون على الحبِّ .
إِذا ما أتاه الرَّكبُ من نحو أرضه ... تنشَّقَ يستشفي برائحة الرَّكبِ .
وصاغت في الحال لهما لحناً وغنَّت به . فلمَّا سمع الصوتَ علم أنَّها قد اشتاقت إلى العراق وأهلُها به فأمر بردِّها . وكان قد عَوَّدها الدخول إليها إِذا دخل إلى حُرَمه . فأغفل ذلك يوماً فقالت : .
أهلي سلوا ربَّكمُ العافيهْ ... فقد دهتني بعدكم داهيهْ .
ما لي أرى الأبصارَ بي خافيهْ ... لم تلتفتْ منِّي إلى ناحيهْ .
ما ينظر الناس إلى المُبتلى ... وإنَّما الناسُ مع العافيهْ .
ومن شعرها : .
إنِّي كثرتُ عليه في زيارته ... فملَّ والشيءُ مملولٌ إِذا كثرا .
ورابني منه أنِّي لا أزال أرى ... في طرفه قِصَراً عنِّي إِذا نظرا .
ومنه : .
كتمتُ اسمَ الحبيب عن العبادِ ... وردَّدْتُ الصبابَةَ في فؤادي .
فواشوقي إلى نادٍ خَليٍّ ... لعلِّي باسمِ مَن أهوى أنادي .
ومن قولها في رشأ الخادم تصحِّفه : .
أضحى الفؤاد بزينبا ... صبًّا كئيباً متعَبا .
فجعلتُ زينبَ سُترةً ... وكتمتُ أمراً معجِبا .
ومنه : .
سلطانُ ما ذا الغضبُ ... تظلمني وتعتبُ .
ما ليَ ذنبٌ فإذا ... شئتَ فإنِّي مذنبُ .
ومنه : .
تعالوا ثمَّ نصطبحُ ... ونلهو ثمَّ نقترحُ .
ونجمعُ في لَذاذتنا ... فإنَّ القومَ قد جمحوا .
ومنه : .
ليت شعري متى يكون التلاقي ... قد براني وسلَّ جسمي اشتياقي .
غاب عنِّي من لا أُسمِّيه خوفاً ... ففؤادي مُعلَّقٌ بالتَّراقي .
ومنه : .
خلوتُ بالراح أُناجيها ... أخذتُ منها وأُعاطيها .
نادمتُها إذْ لم أجد صاحباً ... أرضاه أن يَشْرَكَني فيها .
قلتُ : قولها : نادمتُها أكمل من قول أبي نواس : .
على مثلها مثلي يكون منادمي ... وإن لم يكن مثلي خلوتُ بها وحدي .
ومن شعرها : .
سَلِّمْ على ذاك الغزا ... لِ الأغيدِ الحلوِ الدلالِ .
سَلِّمْ عليه وقُلْ له : ... يا غُلَّ ألبابِ الرجالِ .
خَلَّيتَ جسمي ضاحياً ... وسكنتَ في ظلِّ الحجالِ .
وبلغتَ منِّي غايةً ... لم أدرِ فيها ما احتيالي .
ومنه وقد حجَّت مع رشأ : .
بين الإزارين من المُحْرِمِ ... تَوْليهُ عقلِ الرجلِ المسلمِ .
مرَّ إلى الركنِ فزاحمتُهُ ... فاستلمَ الركن ولم يَلْثَمِ .
وفاتَ بالسبقِ إلى زمزمٍ ... وكانتِ اللذاتُ في زمزمِ .
شربتُ في الظلماءِ من بعده ... فلستُ أنسى طعمَه في فمِي .
ومنه : .
قم يا نديمي إلى الشَّمولِ ... قد نمتَ في ليلك الطويلِ .
أما ترى النجمَ قد تبدَّى ... وهمَّ بَهرامُ بالأفولِ .
قد كنتَ عَضْبَ اللسان عهدي ... فَرُحتَ ذا منطقٍ كليلِ .
مَن عاقرَ الراحَ أخرستْهُ ... ولم يُجِبْ منطِقَ السَّؤولِ .
ومنه : .
أتاني عنكِ سبُّكِ لي فَسُبِّي ... أليسَ جرة بفيكِ اسمي فحسبي .
وقُولي ما بدا لكِ أن تقولي ... فما ذا كلُّه إلاَّ لحبِّي .
قُصاراكِ الرجوعُ إلى مرادي ... فما تهوَين من تعذيبِ قلبي .
ومنه :