وقف على جزء من التذكرة التي لي فلما أنهاه مطالعةً كتب عليه بقلمه المليح السعيد : طالعتُ هذا السفر فإذا هو مُسفرٌ عن روض يانع الثمار وبحر تتدفَّق معانيه الغِزار وكنز ينثر على الطلبة سبائك النُّضار وربع آهل المغاني بمعانٍ تُطرب بالمسموع ويدعو ترجيع ألحانه الطير إلى الوقوع وجمع بديع لا نظير له في الآحاد ولا في الجموع فاجتلتِ النفسُ معانيه البديعة لمَّا استهلَّتْ ونهلتْ منه عند موردها وعلَّتْ وعلمت أن لا زبدة لجريها في هذه الحلبة فتسلَّتْ . فلله هذا الدوح الذي دحا " زهرَ الآداب " صلاحُ غرسه وما أبدع ما نمَّقته يدُ كاتبه من الوشي المرقوم في طِرسه فلو أنصفه مشايخ الأدباء لأطلعه كلٌّ منهم شمساً ينظر إليها بعين الحِرباء .
وكتب بعد ذلك شمس الدين محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن الصائغ : .
إنَّ الحسود عندما ... عاينَ ذا الحسنَ افتتنْ .
وقال : لا بِدْعَ إِذا ... أتي عليٌّ بالحَسَنْ .
وكان الذي كتبه القاضي علاء الدين على أول الجزء وكتب شمس الدين بعد ذلك في آخره : طالعتُ هذا الجزء واجتليتُ قمره واجتنيتُ ثمره وسرَّحت الناظر وشرحتُ الخاطر ووجدته قد اشتمل على ما يملأُ القلب والسمع وألفيته واحداً في نوعه يشهدُ لجامعه بحسن الجمع . فقد سطعت أنوارُه وأينعت أزهارُه ودليلٌ على اللبيب اختيارُه ؛ فعلقتُ منه طرائفَ بدعة ولطائفَ صنيعة ولو أنصفتُ لعلقتُه جميعَه . فلمَّا وقفتُ على الأول والثاني قلت في ذلك : .
إنَّ أوراقاً جمعتُ بها ... لفظَ أهلِ الفضلِ والزَّيْنِ .
طُرِّزتْ من هاهنا وهنا ... فأنا بين الطرازَيْنِ .
ووقف القاضي علاء الدين على ما نظمتُه قديماً وهو بيتان : .
إنِّي لأعجبُ من صدودكِ والجفا ... من بعدِ ذاك القربِ والإيناسِ .
حاشا شمائلكِ اللطيفةَ أن تُرى ... عوناً عليَّ مع الزمان القاسي .
فكأَنَّهما أعجباه فقال مجيزاً لهما : .
أَوَثغرُكِ الصافي يردُّ حُشاشتي ... تشكو لهيباً من لظى أنفاسي .
تالله ما هذي طباعُكِ في الهَوَى ... لكنْ حظوظٌ قُسِّمتْ في الناسِ .
فأنشدته لي أيضاً : .
يا مَن تناسى ودادي بعد معرفةٍ ... وقد غدا طوعَ لُوَّامٍ وعُذَّالِ .
ما أنتَ أوَّلَ محبوبٍ ظفرتُ به ... من الزمان فخابتْ فيه آمالي .
فأنشدني من لفظه لنفسه : .
هجرتْ عَزَّةٌ وزادت دلالا ... وتوارتْ إذْ زرتُها عن عِياني .
لا تخافي إِذا التقينا عتابا ... ذاك حظِّي عرفتُه من زماني .
فنظمتُ في هذه المادة : .
إن أتيتَ الحمى فقُلْ لبدورٍ ... حبُّهم لذَّ لي وإن كان آذى .
ما لكم في البعاد والله ذنبٌ ... سوءُ حظِّي الذي قضى لي بهذا .
فأنشدني من لفظه لنفسه : .
قال لي عاذلي : تَسَلَّ إلى كم ... أنتَ تهوى وذاك بالهجر مُغرى ؟ .
قلتُ : أمَّا الجفا فمن سوء حظِّي ... وسُلُوِّي فلا وَهَى وأنتَ أَدرى .
فقلتُ أنا أيضاً : .
أَتُحْرِقُ أحشائي وتُجري مدامعيأَأَنتَ عدوٌّ أم تقولُ حبيبُ ؟ .
وما أنتَ ممَّن خان عهدَ محبِّه ... ولكنَّ حظِّي في الغرام عجيبُ .
وأنشدني لنفسه تخميس الأبيات السينيَّة التي بيني وبينه وهو : .
كُفِّي عتابكِ قد جرى ما قد كفى ... شفَّ الضَّنى جسدي فصرتُ على شفا .
تعدِينَ وصلاً ثن تجتنبي الوفا ... إنِّي لأعجبُ من صدودكِ والجفا .
من بعدِ ذاك القربِ والإيناسِ .
قد صرتُ أقنع بالخيال إِذا سرى ... فعدا عليَّ الدهرُ إذْ سلب الكرى .
ها فاسْكتي لا تُسعديه على الوَرَى ... حاشا شمائلكِ اللطيفةَ أن تُرى .
عوناً عليَّ مع الزمان القاسي .
أم أنَّ عدلَك لا يُزيل ظُلامتي ... وضِيا جبينِك لا يردُّ ضلالتي .
أو حسنُ لفظك لا يجيبُ مقالتي ... أو ثغرُك الصافي يردُّ حُشاشتي .
يشكو لهيباً من لظى أنفاسي .
خلَّيتِني والعودَ في حالٍ سوا ... وتركتني حِلْفَ السُّهادِ مع الجوى