قل لهذا الوزير قولَ مُحِقٍّ ... بَثَّهُ النُصحَ أيَّما إبثاثِ .
قد تقلَّدتَها ثلاثاً ثلاثاً ... وطلاقُ البنات عند الثلاثِ .
وفيهم يقول الصولي : .
ذلَّل الدهرُ آل الفراتِ ... ورماهم بفُرقةٍ وشتاتِ .
ليت آلَ الفراتِ عُدُّوا جميعاً ... قبلَ ما قد رأوه في الأمواتِ .
فلَعَمري لراحةُ الموت خيرٌ ... من صغارٍ وذِلَّةٍ في الحياةِ .
لم يزالوا للمُلك أنجُمَ عزٍّ ... وضياءٍ فأصبحت كاسفاتِ .
ومما قيل فيهم : .
يا أيها اللَحِزُ الضنينُ بمالهِ ... يحمي بتقطيبٍ قليلَ نوالهِ .
أوَما رأيتَ ابن الفرات وقد أتى ... إدبارُهُ من بعد ما إقبالهِ .
أيامَ تطرقُه السعادةُ بالمنى ... وينال ما يهواهُ من آمالهِ .
فخلا من النُّعمى وأصبح يشتكي ... أقياده ألماً على أغلالِهِ .
وكذا الزمانُ بأهلهِ متقلّبٌ ... فاسمح لما أعطيتَ قبل زوالهِ .
روى ابن النجّار في ذيله بسنده إلى أبي النَّصر المفضَّل بن علي الأزدي كاتب المقتدر ومؤدّبه أنه حضر مجلس أبي الحسن بن الفرات وعن يمينه أبو الحسن علي بن عيسى بن داود بن الجرَّاح وعن يساره القاضي أبو عمر محمد بن يوسف وقد تأخَّر حامد بن العباس عن الحضور فقال الوزير : أتعلمون السبب في تأخر حامد ؟ فقالوا : لا . قال : ولكنَّني أعلم سبب ذلك ؛ انصرف البارحة مساءً وداره بعيدة فأبطأ على جاريته فلمَّا وصل استقبلته وقبَّلت جبينه وقالت : يا مولاي أقلقتني بتأخّرك فما الذي بطَّأ بك ؟ فقال : موافقة الوزير - أعزَّه الله - على الحساب . فقالت : يا مولاي حسابٌ في الدنيا وحساب في الآخرة حمل الله عنك . ثمَّ نزعت خفَّيه وقدَّمت نعليه وأفرغت عليه دست ثياب قد بخَّرتها وأخذت ثيابه عنه وقدَّمت إليه الطّهور . فلمَّا صلى المغرب وعشاء الآخرة قدَّمت إليه طبقاً تولَّت لغيبته ألوانه وقد وقفت مع الطبّاخة تحرِّياً لنظافتها وأخذت تلقمه وتأكل منه ثمَّ تولَّت غسل يديه وقدَّمت إليه الشراب وأصلحت عودها فشرب ثلاثة أرطال وشربت مثلها واغتبقا . فلمَّا أصبح دخل الحمام وخرج فسقته من الجلاّب بالثلج ما قطع خماره وقدَّمت إليه طبقاً من المحمَّضات ألواناً طيّبة وهو الآن يأكل . ثمَّ قال : غسل يده ولبس ثيابه . ثمَّ قال : ركب وتوجَّه إلينا . ثمَّ لم يزل ينزله الطريق إلى أن قال : هو في الدهليز . ثمَّ قال : يدخل حامد . فرفع الستر ودخل حامد . فلمَّا رأيناه ما تمالكنا أن ضحكنا . فلمَّا سلَّم وأخذ موضع جلوسه قال : ما الذي أضحككم عند مشاهدتي ؟ قلنا : صحّة حدس الوزير فإن شئت اقتصصناه . فقال : تفضَّلوا . فاقتصصنا ما جرى بأسره فتحيَّر ثمَّ قام على قدميه وحلف بالله - جلّت أسماؤه - لولا أنَّه يعلم أن الوزير أعف خلق الله لقدَّرت أنَّها هي حدَّثته ما جرى ؛ فما أخلَّ بشيءٍ منه . فضحك الجماعة فالتفت الوزير إلى علي بن عيسى فقال : يا أبا الحسن ما أنفع الأشياء للمخمور حتَّى ينجلي خماره ؟ فقال : والله ما عاقرتُ عليها ولا سكرت منها ولا أعرف داءها ولا دواءها فأعرض عنه والتفت إلى القاضي أبي عمر فقال : أيُّها القاضي أفتِنا فيما سألْنا عنه أبا الحسن - أعزَّه الله - فلم يجبنا . فقال القاضي : نعم أطال الله بقاء الوزير ؛ قال سبحانه وتعالى : " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهُوا " وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : " استعينوا على كلّ صناعة بأهلها " . ووجدنا المقدَّم في هذا الأمر والمُجْمَعَ على اختصاصه به أبا نواس الحسن بن هانئ ووجدناه يقول في هذا المعنى : .
داوِ ماري من خُمارهِ ... بابنة الدنِّ وقارِهْ .
من شرابٍ خُسْرَوِيٍّ ... ما تعنَّوا باعتصارِهْ .
طبختهُ الشمس لمّا ... بخل العِلجُ بنارِهْ .
فنرى - وبالله توفيقنا - أن من تناول منها شيئاً قطع به الخمار وكسر سَورته . فقال الوزير لأبي الحسن : أما كنتَ بهذا الجواب أولى للطف الكتّاب ودماثتهم ؟ ولكن أبى الله إلاَّ أن يدلَّ على فضل قاضي القضاة ولطف نفسه وحسن استخراجه وقوة حسِّه وكمال فتّوته .
الشيخ علي بن نبهان