قال الخالع : كانت للناشيء جارية سوداء تخدمه فدخل يوماً إلى دار أخته وأنا معه فرأى صبياً صغيراً أسود فقال لها : من هذا ؟ فسكتت فألح عليها فقالت : ابن بشارة فقال : ممن ؟ فقالت : من أجل ذلك أمسكت . فاستدعى الجارية فقال لها : هذا الصبي من أبوه ؟ فقالت : ما له أب . فالتقت إلي وقال : سلم لي على المسيح عليه السلام إذاً .
وكان شيخاً طويلاً جسيماً عظيم الخلقة عريض الألواح موفر القوة جهوري الصوت . عمر نيفاً وتسعين سنة ولم تضطرب أسنانه . وناظر يوماً علي بن عيسى الرماني في مسألة فانقطع الرماني فقال : أعاود النظر وربما كان في أصحابي من هو أعلم مني بهذه المسألة فإن ثبت الحق معك وافقتك عليه فأخذ يندد به فدخل عليهما علي بن كعب الأنصاري المعتزلي فقال : في أي شيء أنتما يا أبا الحسين ؟ فقال : في ثيابنا فقال : دعنا من مجونك وأعد المسألة فلعلنا أن نقدح فيها فقال : كيف تقدح وحراقك رطب ؟ وناظر أشعرياً فصفعه فقال : ما هذا يا أبا الحسين ؟ فقال : هذا فعله الله بك فلم تغضب مني ؟ فقال : ما فعله غيرك وهذا سوء أدب وخارج عن المناظرة فقال : ناقضت إن أقمت على مذهبك فهو من فعل الله وإن انتقلت فخذ العوض فانقطع المجلس بالضحك وصارت نادرة .
قال ياقوت في معجم الأدباء : لو كان الأشعري ماهراً لقام إليه وصفعه أشد من تلك ثم يقول له : صدقت تلك من فعل الله بي وهذه من فعل الله بك فتصير النادرة عليه لا له . وقال : كنت بالكوفة سنة خمس وعشرين وثلاث مائة وأنا أملي شعري في المسجد الجامع بها والناس يكتبونه عني وكان المتنبي إذ ذاك يحضر وهو بعد لم يعرف ولم يلقب بالمتنبي فأمليت القصيدة التي أولها : من الوافر .
بآل محمد عرف الصواب ... وفي أبياتهم نزل الكتاب .
وقلت منها : .
كأن سنان ذابله ضمير ... فليس عن القلوب له ذهاب .
وصارمه كبيعته بخم ... مقاصدها من الخلق الرقاب .
فلمحته يكتب هذين البيتين ومنهما أخذ ما أنشدتموني الآن له من قوله : من الوافر .
كأن الهام في الهيجا عيون ... وقد طبعت سيوفك من رقاد .
وقد صغت الأسنة من هموم ... فما يخطرن إلا في فؤاد .
قلت : وقد تقدم في ترجمة أبي الطيب المتنبي هذان البيتان وما أشبههما . ومن شعر الناشئ : من الطويل .
إذا أنا عاتبت الملوك فإنني ... أخط على صفح من الماء أحرفا .
وهبه أرعوى بعد العتاب ألم تكن ... مودته طبعاً فصارت تكتلفا ؟ .
ومنه : من الطويل .
وليل توارى النجم من طول مكثه ... كما ازور محبوب لخوف رقيبه .
كأن الثريا فيه باقة نرجس ... يحيي بها ذو صبوة لحبيبه .
ومنه : من الطويل .
دنان كرهبان عليها برانس ... من الخز دكن يوم فصح تقصف .
ينظم منها المزج سلكاً كأنه ... إذا ما بدا في الكأس در منصف .
أبو الحسن الطوسي علي بن عبد الله أبو الحسن الطوسي حدث بسر من رأى عن محمد بن زياد الأعرابي وروى عنه أبو نصر محمد بن موسى الطوسي وقاسم بن محمد الأنباري وابنه عمر وأحمد بن علي . وكان أبو الحسن أحد أعيان علماء الكوفة وكان عدواً لابن السكيت لأنهما أخذا عن نصران الخراساني واختلفا في كتبه بعد موته . وكان أبو الحسن قد لقي مشايخ الكوفيين والبصريين رواية لأخبار القبائل وأشعار الفحول . وكان شاعراً ولا مصنف له ومن شعره : من الخفيف .
هجم البرد والشتاء ولا أملك إلا رواية العربية .
وقميصاً لوهبت الريح لم يبق على عاتقي منه بقيه .
وتقل الغناء عني فنون العلم إن أعصفت شمال عريه .
ولما مات الطوسي قال أحمد بن أبي طاهر يرثيه : من البسيط .
من عاش لم يخل من هم ومن حزن ... بين المصائب من دنياه والمحن .
والموت قصر امرئ مد البقاء له ... فكيف يسكن من عيش إلى سكن .
وإنما نحن في الدنيا على سفر ... فراحل خلف الباقي على ظعن .
ولا أرى زمناً أودى أبا حسن ... وخان فيه على حر بمؤتمن .
لقد هوى حبل للمجد لو وزنت ... به الجبال الرواسي الشم لم تزن