ولما مات سيف الدولة تولى أمره القاضي أبو الهيثم ابن أبي حصين وغسله عبد الحميد بن سهل المالكي قاضي الكوفة سبع مرات أولاً بالماء والسدر ثم بالصندل ثم بالذريرة ثم بالعنبر ثم بالكافور ثم بماء الورد ثم بالمسك ثم بماء قراح ونشف بثوب دبيقي ثمنه خمسون ديناراً . وكفن في سبعة أثواب تساوي ألفي دينار فيها قميص قصب بعد أن صبر بمائة مثقال غالية ومنوين كافور . وصلى عليه أبو عبد الله الأقساسي العلوي الكوفي وكبر عليه خمساً وحمل في تابوت إلى ميافارقين .
وملك بعده ابنه سعد الدولة . ويقال إنه في أيامه لقي جندي جندياً من أصحاب سيف الدولة فقال له : كيف أنتم ؟ فقال : كيف نحن وقد بلينا بشاعر كذاب وسلطان خفيف الركاب يعني بذلك المتنبي في أمداحه لسيف الدولة . وكان سيف الدولة قد استولى أولاً على واسط ونواحيها . وتنقلب به الأحوال فانتزع حلب سنة ثلاث وثلاثين من أحمد بن سعيد الكلابي نائب الإخشيد . وكان إمامياً متظاهراً بالتشيع كثير الافضال على الطالبيين وأشياعهم ومنتحلي مذاهبهم . وكان ناصر الدولة الحسن أخوه يحب سيف الدولة وهو أكبر منه . قال أنفقت من المال مائة ألف دينار حتى يلقب علي سيف الدولة . وكان سيف الدولة يعظم أخاه ناصر الدولة وله فيه من الأشعار ما تقدم في ترجمة ناصر الدولة .
وعاد سيف الدولة من بعض غزواته وجلس للتهنئة والشعراء ينشدونه . فدخل رجل من أهل الشام طويل الرقبة كبير الذقن . فأنشده أبياتاً مرذولة إلى أن قال منها : من الطويل .
فكانوا كفارٍ وشوشوا خلف حائط ... وكنت كسنور عليهم تسلقا .
فأمر به سيف الدولة فوجيء في حلقه حتى أخرج . فلما انقضى المجلس سأل : هل بالباب أحد ؟ فقيل : ذلك الشاعر جالس في الدهليز يبكي ويتألم فأمر بإحضاره وقال له : ما حملك على قتله ؟ فقال : أيها الأمير ما أنصفتني لأني أتيتك بكل جهدي أطلب بعض ما عندك فنالني منك ما نالني . فقال : من يكون هذا نثره يكون ذلك نظمه ؟ ! .
كم كنت أملت بهذه القصيدة ؟ قال : خمس مائة درهم فقال : أضعفوها له .
وقدم إليه أعرابي رث الهيئة وأنشده : من المنسرح .
أنت علي وهذه حلب ... قد نفذ الزاد وانتهى الطلب .
بهذه تفخر البلاد وبالأمير ... تزهى على الورى العرب .
وعبدك الدهر قد أضر بنا ... إليك من جور عبدك الهرب .
فأمر له بمائتي دينار من دنانير الصلات كل دينار عشرة دنانير عليه اسمه وصورته . وطلب رسول سيف الدولة لما قدم الحضرة ببغداد من إبراهيم بن هلال الصابي شيئاً من شعره فكتب إليه : من الكامل .
إن كنت خنتك في المودة ساعة ... فذممت سيف الدولة المحمودا .
وزعمت أن له شريكاً في العلى ... وجحدته في فضله التوحيدا .
قسماً لواني حالف بغموسها ... لغريم دين ما أراد مزيدا .
فبعث إليه ثلاث آلاف دينار لكل بيت ألف دينار . وقال الببغا : ما حفظنا على سيف الدولة خرماً قط إلا في يوم واحد فإنه كان في مجلس خلوة ونحن قيام بين يديه فدخل أبو فراس وكان بديعاً في الحسن فقبل يده فقال : فمي أحق من يدي .
والناس يسمون عصره وزمانه الطراز المذهب لأن الفضلاء الذي كانوا عنده والشعراء الذين مدحوه لم يأت بعدهم مثلهم : خطيبه ابن نباتة ومعلمه ابن خالويه وطباخه كشاجم والخالديان كتبه والمتنبي والسلامي والوأواء والببغاء وغيرهم شعراؤه . وقد غلط الناس ونسبوا إليه أشعاراً ليست له من ذلك الأبيات التي في وصف قوس قزح وأولها : من الطويل .
وساق صبيح للصبوح دعوته ... فقام وفي أجفانه سنة الغمض .
وهي لابن الرومي ذكرت في ترجمته وقيل لغيره . وكذا الأبيات التي أولها : من الخفيف .
راقبتني فيك العيون فأشفق ... ت ولم أخل قط من إشفاق .
الأبيات ليست له قيل إنها لعبد المحسن الصوري .
ومن شعره يصف مخدة : من الرجز المجزوء .
نمرقة منها استفا ... د الزهر أصناف الملح .
تلمح فيها العين من ... ريش الطواويس لمح .
كأنما دار على سمائها قوس قزح .
ومنه : من الوافر .
أقبله على جزعي ... كشرب الطائر الفزع .
رأى ماء فأطمعه ... وخاف عواقب الطمع