وأما ما أمر به في شعر ابن الرومي فما المملوك من أهل اختياره ولا من الغواصين الذين يستخرجون الدر من بحاره لأن بحاره زخارة وأسوده زآره ومعدن تبره مردوم بالحجارة وعلى كل عقيلة منه ألف نقاب بل ألف ستارة . يطمع ويؤيس ويوحش ويؤنس وينير ويظلم ويصبح ويعتم شذره وبعره ودره وآجره وقبله تجانبها السبة وصرة بجوارها قحبة ووردة قد خف بها الشوك وبراعة قد غطى عليها النوك . لا يصل الاختيار إلى الرطبة حتى يخرج بالسلى ولا يقول عاشقها : هذه الملح قد أقبلت حتى يرى الحسن قد تولى . فما المملوك من جهابذته وكيف وقد تفلس فيه الوزير ولا من صيارفته ونقاده . ولو اختاره جرير لأعياه تمييز الخيش من الوشي والوبر من الحرير .
حكى ابن رشيق وغيره أن لائماً لام ابن الرومي فقال له : لم لا تشبه كتشبيهات ابن المعتز وأنت أشعر منه ؟ قال له : أنشدني شيئاً من قوله الذي استعجزتني في مثله فأنشده قوله في الهلال : من الكامل .
وانظر إليه كزورقٍ من فضةٍ ... قد أثقلته حمولة من عنبر .
فقال له : زدني فأنشده قوله : من مجزوء الرجز .
كأن آذريونها ... والشمس فيها كاليه .
مداهن من ذهب ... فيها بقايا غاليه .
فصاح : واغوثاه تالله " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها " ذاك إنما يصف ماعون بيته لأنه ابن خليفة وأنا أي شيء أصف ؟ ولكن انظروا إذا أنا وصفت ما أعرف أين يقع قولي من الناس هل لأحد قط مثل قولي في قوس الغمام وأنشد : من الطويل .
وساق صبيح للصبوح دعوته ... فقام وفي أجفانه سنة الغمض .
يطوف بكاسات العقار كأنجم ... فمن بين منقض علينا ومنفض .
وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفاً ... على الجو دكناً والحواشي على الأرض .
يطرزها قوس السحاب بأخضر ... على أحمر في أصفر فوق مبيض .
كأذيال خود أقبلت في غلائل ... مصبغة والبعض أقصر من بعض .
وقولي في صانع الرقاق : من البسيط .
لا أنس لا أنس خبازاً مررت به ... يدحو الرقاقة مثل اللمح بالبصر .
ما بين رؤيتها في كفه كرة ... وبين رؤيتها قوراء كالقمر .
إلا بمقدار ما تنداح دائرة ... في صفحة الماء يلقى فيه بالحجر .
وزاد أبو بكر النحوي أنه أنشده في قالي الزلابية : من البسيط .
ومستقر على كرسيه تعب ... روحي الفداء له من منصب تعب .
رأيته سحراً يقلي زلابية ... في رقة القشر والتجويف كالقصب .
كأنما زيته المغلي حين بدا ... كالكيمياء التي قالوا ولم تصب .
يلقى العجين لجيناً من أنامله ... فيستحيل شبابيكاً من الذهب .
ومن قصائده الغر قوله : من الطويل .
بكيت فلم تترك لعينيك مدمعا ... زماناً طوى شرخ الشباب فودعا .
منها : .
أعاذل إن أعط الزمان عنانه ... فقد كنت أثني منه رأساً وأخدعا .
سقى الله أياماً مضت وليالياً ... تقطع من أسبابها ما تقطعا .
ليالي ينسين الليالي حسابها ... بلهنية أقضي بها العمر أجمعا .
ليالي لو نازعتها رجع أمسها ... ثنت جيدها طوعاً إلي لترجعا .
وقد أغتذي للطير والطير هجع ... ولو علمت مغداي ما بتن هجعا .
بخلين تما بي ثلاثة إخوة ... جسومهم شتى وأرواحهم معا .
كمنطقة الجوزاء لاحت بسدفة ... بعقب غمام عمها ثم قشعا .
كأني ما روحت صحبي عشية ... بساحل مخضر الجنابين مترعا .
إذا رنقت شمس الأصيل ونفضت ... على الأفق الغربي ورساً مدعدعا .
وودعت الدنيا لتقضي نحبها ... وسرك باقي عمرها فتسعسعا .
ولاحظت النوار وهي مريضة ... وقد وضعت خداً على الأرض أضرعا .
كما لاحظت عوادها عين مدنف ... توجع من أوصابها ما توجعا .
وظلت عيون النور يخضل بالندى ... كما اغرورقت عين الشجي لتدمعا