اجتمع يوماً بمحمد بن الحسن في مجلس الرشيد فقال الكسائي : من تبحر في علم يهدى إلى جميع العلوم فقال له محمد بن الحسن : ما تقول في من سها في سجود السهو هل يسجد مرة أخرى ؟ فقال الكسائي : لا قال : لماذا ؟ قال : لأن النحاة يقولون : التصغير لا يصغر . وقيل إن هذه جرت لمحمد بن الحسن والفراء النحوي فقال محمد بن الحسن : فما تقول في تعليق الطلاق بالملك ؟ قال : لا يصح قال : لم ؟ قال : لأن السيل لا يسبق المطر . وسيأتي ذكر ما جرى له مع سيبويه في ترجمته إن شاء الله تعالى .
وكتب إلى الرشيد يشكو العزبة : من الكامل .
قل للخليفة : ما تقول لمن ... أمسى إليك بحرمة يدلي .
ما زلت مذ صار الأمين معي ... عبدي يدي ومطيتي رجلي .
وعلى فراشي من ينهنهني ... من نومتي وقيامه قبلي .
أسعى برجل منه ثالثة ... موفورة مني بلا رجل .
وإذا ركبت أكون مرتدفاً ... قدام سرجي راكباً مثلي .
فامنن علي بما يسكنه ... عني وأهد الغمد للنصل .
فأمر له الرشيد بعشرة آلاف درهم وجارية حسناء وخادم وبرذون وجميع ما تحتاج الجارية إليه .
وحكي أنه كان يشرب الشراب ويأتي الغلمان . قيل إنه أقام غلاماً ممن عنده في الكتاب يفسق به وجاء بعض الكتاب ليسلم عليه فرآه الكسائي ولم يره الغلام فجلس الكسائي في مكانه وبقي الغلام قائماً مبهوتاً . فلما دخل الكاتب قال : ما شأن هذا الغلام قائماً ؟ قال : وقع الفعل عليه فانتصب . ذكر ذلك ياقوت في معجم الأدباء .
وأشرف الرشيد عليه يوماً وهو لا يراه فقام الكسائي ليلبس نعليه فابتدر الأمين والمأمون فوضعاها بين يديه . فقبل رؤوسهما وأيديهما وأقسم عليهما أن لا يعاودوا ذلك أبداً . فلما جلس الرشيد مجلسه قال : أي الناس أكرم خدماً ؟ قالوا : أمير المؤمنين أعزه الله تعالى فقال : بل الكسائي يخدمه الأمين والمأمون وحدثهم الحديث .
وقال الفراء : مدحني رجل من النحويين فقال لي : ما اختلافك إلى الكسائي وأنت مثله في النحو ؟ ! .
! .
فأعجبتني نفسي فأتيته فناظرته مناظرة الأكفاء وكأني كنت طائراً يغرف من البحر بمنقاره . وقال الفراء : مات الكسائي وهو لا يدري حد نعم وبئس ولا حد أن المفتوحة ولا حد الحكاية . ولم يكن الخليل يحسن حد النداء ولا كان سيبويه يدري حد التعجب .
وكان سبب تعلم الكسائي النحو أنه جاء إلى قوم من الهباريين وقد أعيى فقال : قد عييت فقالوا له : أتجالسنا وتلحن ؟ ! .
! .
فقال : كيف لحنت ؟ فقالوا : إن كنت أردت من انقطاع الحيلة والتحير في الأمر فقل : عييت مخففاً وإن كنت أردت من التعب فقل : أعييت . فأنف من هذه الكلمة ثم قام من فوره وأتى إلى معاذ الهراء ولازمه حتى أخذ ما عنده . وخرج إلى البصرة فأتى الخليل وجلس في حلقته فقال له رجل من الإعراب : تركت أسد الكوفة وتميماً وعندها الفصاحة وجئت إلى البصرة ! .
! .
فقال الخليل : من أين أخذت علمك هذا ؟ فقال : من بوادي الحجاز ونجد وتهامة . فخرج ورجع وقد أنفذ خمس عشرة قنينة حبراً في الكتابة عن العرب سوى ما حفظ . فلم يكن له هم غير البصرة والخليل فوجد الخليل قد مات وجلس في موضعه يونس النحوي . فمرت بينهما مسائل أقر له يونس فيها وصدره موضعه .
ولما أتى حمزة الزيات وتقدم ليقرأ عليه رمقه القوم بأبصارهم وقالوا : إن كان حائكاً فسيقرأ سورة يوسف وإن كان ملاحاً فسيقرأ سورة طه . فسمعهم فقرأ بسورة يوسف . فلما بلغ إلى قصة الذئب قرأ : " فأكله الذيب " بغير همزٍ فقال له حمزة : الذئب بالهمز فقال له الكسائي : وكذلك أهمز الحوت ؟ " فالتقمه الحوت " قال : لا قال : فلم همزت الذئب ولم تهمز الحوت وهذا " فأكله الذئب " وهذا " فالتقمه الحوت " ؟ فرفع حمزة بصره إلى خلاد الأحول وكان أجمل غلمانه فتقدم إليه جماعة من المجلس فناظروا فلم يصنعوا شيئاً . فقال : أفدنا رحمك الله . فقال الكسائي : تفهموا عن الحائك تقول : إذا نسبت الرجل إلى الذئب : قد استذأب الرجل ولو قلت : قد استذاب بغير همز لكنت إنما نسبته إلى الهزال أي : استذاب شحمه بغير همز . وإذا نسبته إلى الحوت تقول : قد استحات الرجل أي كثر أكله لأن الحوت يأكل كثيراً لا يجوز فيه الهمز . فلتلك العلة همز الذئب ولم يهمز الحوت . وفيه معنى آخر : لا يسقط الهمز من مفرده ولا من جمعه وأنشدهم : من الخفيف