وقال المدائني : كانوا يقولون العباس بن الأحنف مثل أبي العتاهية في الزهد يكثران الحز ولا يصيبان المفصل ؛ وقال غيره : كانت في العباس آلات الظرف كان جميل المنظر نظيف الثوب فاره المركب حسن الألفاظ حسن لحديث كثير النوادر باقياً على الشراب شديد الاحتمال طويل المساعدة . قال أبو بكر الصولي : حدثت عن محمد بن زكرياء البصري قال حدثني رجل من قريش قال : خرجت حاجاً فخرجنا نصلي في بعض الطريق فجاءنا غلام فقال : فيكم أحد من أهل البصرة ؟ فقلنا : كلنا من أهل البصرة قال : إن مولاي من أهلها وهو يدعوكم فقمنا إليه فإذا هو نازل على عين ماء فقال : إني أحب أن أوصي إليكم ثم رفع رأسه يترنم : .
يا بعيد الدار عن وطنه ... مفرداً يبكي على سكنه .
كلما جد الرحيل به ... زادت الأسقام في بدنه .
ثم أغمي عليه فأفاق وهو يقول : .
ولقد زاد الفؤاد هوى ... هاتف يبكي على فننه .
شفه ما شفني فبكى ... كلنا يبكي على شجنه .
ثم مات فقلنا للغلام : من مولاك ؟ فقال : العباس بن الأحنف فأصلحنا من شأنه وصلينا عليه ودفناه C . وطلبه يحيى بن خالد البرمكي يوماً فقال : إن مارية هي الغالبة على أمير المؤمنين وإنه جرى بينهما عتب فهي بعزة دالة المعشق تأبى أن تعتذر وهو بعز الخلافة وشرف الملك والبيت يأبى ذلك وقد رمت الأمر من قبلها فأعياني وهو أحرى أن تستفزه الصبابة فقل شعراً تسهل به عليه هذه القضية وأعطاه دواة وقرطاساً وطلبه الرشيد فتوجه إليه ونظم العباس بن الأحنف قوله : .
العاشقان كلاهما متغضب ... وكلاهما متوجد متجنب .
صدت مغاضبة وصد مغاضباً ... وكلاهما مما يعالج متعب .
راجع أحبتك الذين هجرتهم ... إن المتيم قلما يتجنب .
إن التجنب إن تطاول منكما ... دب السلو له فعز المطلب .
ثم قال لأحد الرسل : ابلغ الوزير أني قد قلت أربعة أبيات فإن كان فيها مقنع وجهت بها فعاد الرسول وقال : هاتها ففي أقل منها مقنع وفي قدر الروي فكتب الأبيات وكتب تحتها أيضاً : .
لا بد للعاشق من وقفة ... تكون بين الوصل والصرم .
حتى إذا الهجر تمادى به ... راجع من يهوى على رغم .
فدفع الرقعة يحيى إلى الرشيد فقال : والله ما رأيت شعراً أشبه بما نحن فيه من هذا الشعر والله لكأني قصدت به فقال يحيى : والله يا أمير المؤمنين لأنت المقصود به فقال الرشيد : يا غلام هات نعلي فإني والله أراجعها على رغم ؛ فنهض وأذهله السرور أن يأمر للعباس بشيء ؛ ثم إن مارية لما علمت بمجيء الرشيد إليها قامت تلقته وقالت : كيف ذلك يا أمير المؤمنين ؟ فأعطاها الشعر وقال : هذا الذي جاء بي إليك قالت : فمن قاله ؟ قال : العباس بن الأحنف قالت : فبم كوفئ ؟ قال : ما فعلت بعد شيئاً فقالت : والله لا أجلس حتى يكافأ فأمر له بمال كثير وأمرت هي له بدون ذلك وأمر له يحيى بدون ما أمرت به وحل على برذون ثم قال له الوزير يحيى : من تمام النعمة عندك أن لا تخرج من الدار حتى نؤثل لك بهذا المال ضيعة فاشترى له ضياعاً بجملة من ذلك المال ودفع إليه بقية المال .
ومن شعره : .
جرى السيل فاستبكاني السيل إذ جرى ... وفاضت له من مقلتي غروب .
وما ذاك إلا حيث أيقنت أنه ... يمر بواد أنت منه قريب .
يكون أجاجاً دونكم فإذا انتهى ... إليكم تلقى طيبكم فيطيب .
أيا ساكني أكناف دجلة كلكم ... إلى النفس من أجل الحبيب حبيب .
وله تغزل كثير في فوز وظلوم وخبره مع فوز مذكور في كتاب الأغاني لأبي الفرج ؛ وقال أبو الفرج : حدثني أبو جعفر النخعي قال : كان العباس يهوى عنان جارية النطاف فجاءني يوماً فقال : امض بنا إلى عنان قال : فصرنا إليها فرأيتها كالمهاجرة له فجلسنا قليلاً ثم ابتدأ العباس فقال : .
قال عباس وقد أج ... هد من وجد شديد : .
ليس لي صبر على الهج ... ر ولا لذع الصدود .
لا ولا يصبر للهج ... ر فؤاد من حديد .
فقالت عنان : .
من تراه كان أغنى ... منك عن هذا الصدود