ثم إنه اتفق مع الصالح نجم الدين أيوب في أنه إن ملك مصر ما يفعل فقال الصالح : أنا غلامك وشرط عليه أشياء . فلما ملك مصر وقع التسويق منه والمغالطة فغضب الناصر ورجع . ثم إن الصالح بعث عسكراً فاستولوا على بلاد الناصر وأخذ منه أطراف بلاده . ثم إن ابن الشيخ نازله في الكرك وحاصره أياماً ورحل فقلّ ما عند الناصر من الذخائر والأموال واشتدّ عليه الأمر فجهز شمس الدين الخسروشاهي ومعه ولده إلى الصالح وقال : تسلَّم مني الكرك وعوِّضني الشَّوبك وخبزاً بمصر فأجابه فرحل إلى مصر مريضاً . ثم إن الأمر ضاق عليه فترك ولده المعظم نائباً على الكرك وأخذ ما يعزّ عليه من الجواهر ومضى إلى حلب مستجيراً بصاحبها فأكرمه ونزَّله . وسار من حلب إلى بغداد وأودع ما معه من الجواهر عند الخليفة وكانت قيمتها أكثر من مائة ألف دينارٍ ولم يصل بعد ذلك إليها .
وكان له ولدان : الظاهر والأمجد فتألمّا من الناصر أبيهما لكونه استناب أخاهما المعظم على الكرك وهو ابن جارية وهما من بنت الملك الأمجد ابن العادل فأمهما بنت عمه وبن عمّ الصالح . فاتفقت مع أمهما على القبض على المعظّم فقبضاه واستوليا على الكرك . ثم سار الأمجد إلى المنصورة فأكرمه الصالح فكلمه في الكرك . وتوثَّق منه لنفسه وإخوته وأن يعطيه خبزاً بمصر فأجابه وسيّر الطواشي بدر الدين الصّوابي إلى الكرك نائباً وأقطع أولاد الناصر إقطاعات جليلة وفرح بالكرك . وبلغ الناصر الخبر وهو بحلب فعظم ذلك عليه . فلما مات الصالح وتملّك ابنه المعظّم توران شاه وقتل عمَّه الصوابي فأخرج المغيث عمر بن العادل بن الكامل بن حبس الكرك وملّكه الكرك والشَّوبك . وجاء صاحب حلب فملك دمشق ومعه الصالح إسماعيل والناصر داود . وقد مرض صاحب حلب فقيل له أن الناصر سعى في السلطنة فلما عوفي قبض على الناصر وحبسه بحمص . ثم إنه أفرج عنه بشفاعة الخليفة فتوجّه إلى الخليفة فلم يؤذن له في الدخول إلى بغداد فطلب وديعته فلم تحصل له فرد إلى دمشق . ثم سار إلى بغداد لأجل الوديعة والحج وكتب معه الناصر يوسف إلى الخليفة يشفع فيه فيرد الوديعة فسافر ونزل بمشهد الحسين بكربلاء وسيَّر قصيدة إلى الخليفة بمدحه ويتلطَّف فلم يرد عليه جواب مفيد فحجّ وأتى المدينة وقام بين يدي الحجرة الشريفة وأنشد قصيدته التي أولها : من الطويل .
إليك امتطينا اليعملات رواسماً ... يجبن الفلا ما بين رضوى ويذبل .
ثم أحضر شيخ الحرم والخدّام ووقف بين يدي الضريح مستمسكاً بسجف الحجرة وقال : اشهدوا أن هذا مقامي من رسول الله A قد دخلت عليه مستشفعاً به إلى ابن عمه أمير المؤمنين في رد وديعتي فأعظم الناس هذا وبكوا وكتب بصورة ما جرى إلى الخليفة . ولما كان الركب في الطريق خرج عليهم أحمد بن حجي بن بريد من آل مرى فوقع القتال وكادوا يظفرون بأمير الحاج فشقّ الناصر الصفوف وكلّم أحمد بن حجي وكان أبوه صاحبه فترك الركب وانقاد له .
ونزل الناصر بالحلّة فقرِّر له راتب يسير ولم يحصل له مقصود فجاء إلى قرقيسياء ومنها إلى تيه بني إسرائيل وانضم إلى عربان فخاف المغيث منه وراسله وخادعه إلى أن قبض عليه وعلى من معه وحبسه بطور هرون فبقي ثلاث ليالٍ . واتفق أن المستعصم دهمه أمر التتار فكتب إلى صاحب الشام يستمدّه ويطلب جيشاً يكون مقدَّمه الناصر داود . فطلبه من المغيث فأخرجه وقدم إلى دمشق ونزل بقربة البويضا قرب البلد . وأخذ يتجهَّز للمسير فجاءت الأخبار بما جلى على بغداد من التتار . وعرض طاعون بالشام عقيب واقعة بغداد فطعن الناصر في جنبه فتوفي ليلة الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة ست وخمسين وست مائة . وركب السلطان إلى البويضا وأظهر التأسف عليه وقال : هذا كبيرنا وشيخنا . ثم حمل إلى تربة والده بسفح قاسيون . وكانت أمه خوارزمية فعاشت بعده مدةً .
وكان C معتنياً بتحصيل الكتب النفيسة . ووفد عليه راجح الحلِّي ومدحه فوصل إليه منه ما يزيد على أربعين ألف درهم وأعطاه على قصيدةٍ واحدةٍ ألف دينار . وأقام عند الخسروشاهي فوصله بأموالٍ جزيلة . وكتب الملك الناصر داود إلى وزيره فخر القضاة أبي الفتح نصر الله ابن بصاقة : من الكامل .
يا ليلةً قطَّعت عمر ظلامها ... بمدامةٍ صفراء ذات تأجُّج