داود بن عليّ بن خلف الأصبهاني المشهور بالظاهري . كان زاهداً متقلِّلاً كثير الورع . أخذ العلم عن إسحق بن راهويه وأبي ثور وكان من أكثر الناس تعصُّباً للشافعي وصنَّف في فضائله والثناء عليه كتابين . وكان صاحب مذهبٍ مستقل وتبعه جمع كثير من الظاهرية . وكان ولده أبو بكر محمد المذكور في المحمدين على مذهبه وانتهت إليه رئاسة العلم ببغداد . قيل أنه كان يحضر مجلسه أربع مائة صاحب طيلسان أخضر وكان من عقلاء الناس . قال أبو العباس ثعلب في حقه : كان عقل داود أكثر من علمه . وولد بالكوفة سنة اثنتين ومائتين وقيل سنة إحدى وقيل سنة مائتين . ونشأ ببغداد وتوفي سنة سبعين ومائتين . سمع سليمان بن حرب والقعنبي وعمرو بن مرزوق ومحمد بن كثير العبدي ومسدَّداً وأبا ثورٍ الفقيه وإسحق بن راهويه . ورحل إليه إلى نيسابور وسمع منه المسند الكبير والتفسير وجالس الأئمة وصنَّف الكتب .
قال الخطيب : كان إماماً عارفاً ورعاً ناسكاً زاهداً وفي كتبه حديث كثير لكنّ الرواية عنه عزيزة جداً . روى عنه ابنه محمد وزكرياء السّاجي ويوسف بن يعقوب الداودي وعباس بن أحمد المذكِّر وغيرهم . وكان أبوه حنفي المذهب . وللعلماء قولان في داود قال أبو إسحق الإسفراييني : قال الجمهور : إنهم يعني نفاة القياس لا يبلغون درجة الاجتهاد ولا يجوز تقليدهم القضاء . قال : ونقل الأستاذ أبو منصور البغدادي عن أبي علي بن أبي هريرة وطائفةٍ من الشافعيين أنه لا اعتبار بخلاف داود وسائر نفاة القياس في الفروع دون الأصول .
وقال إمام الحرمين : الذي ذهب إليه أهل التحقيق أنّ منكري القياس لا يعدون من علماء الأمة ولا من حملة الشريعة لأنه معاندون مباهتون فيما ثبت استفاضةً وتواتراً لأن معظم الشريعة صادرة عن الاجتهاد ولا تفي النصوص بعشر معشارها وهؤلاء ملتحقون بالعوامّ . قال الشيخ شمس الدين : قول أبي المعالي إمام الحرمين فيه بعض ما فيه فإنما قاله باجتهادٍ ونفيهم للقياس باجتهادٍ فكيف يردّ الاجتهاد بمثله ؟ قلت : هذا الذي قاله الشيخ شمس الدين خطأ وتعصُّب ممن هو غير قادر على التعصّب . لم يقل إمام الحرمين : إني لا أعتبر خلاف الظاهرية بالاجتهاد وإنما قال ذلك للدليل القاطع المجتمع من الأدلَّة المتعددة الذي صار بحيث لا يحتمل في الكلام على صحة ما نفوه من إثبات القياس . ثم رأينا هذا الدليل الظاهر الذي دل على أصل القياس شيء لا يحتمل المنازعة فيه لظهوره وقد نازعوا فيه . وهذه المنازعة لقول الإمام الظاهر أنها عناد ومن عاند في الحقّ لا عبرة بقوله وهذا ظاهر وإن لم تكن عناداً كما هو المظنون بذوي الحجى فقد نفوا ما ثبت بالدليل القاطع باجتهادٍ قصاراه إفادة الظنّ الذي لا يعارض القطع الظاهر . ثم أودع إمام الحرمين في كلامه ما هو كالدليل على ما قاله وهو أن من أنصف من نفسه علم أن النصوص التي أخذت منها الأحكام لا تفي بعشر معشار الحوادث التي لا نهاية لها فما الذي يقوله الظاهري في غير المنصوص إذا أتاه عاميّ وسأله عن حادثةٍ لا نصّ فيها أيحكم فيها بشيءٍ أم يدع العامِّيِّ وجهله ؟ لا قائل من المسلمين بالثاني أعني أنَّا ندع العامِّيِّ يخبّط في دينه وإن حكم فيها والواقع أن لا نصَّ فإما أن يقيس أو يخترع من نفسه حكماً يلزم الناس الأخذ به . إن اخترع من عند نفسه ونسبه إلى الحكم الشرعيّ كان كاذباً على الله ورسوله A وإلا كان ملزماً للناس بفلتات لسانه فما بقي إلا أنه لا يخترعه من عند نفسه ويقيسه على الصُّور المنصوص عليها