وكتب إلى العلاَّمة شهاب الدين أبي الثناء محمود C تعالى من القاهرة : يقبّل الأرض لا أبعد الله عن الرُّوّاد ساحتها ولا أفقد الورّاد سماحتها ولا زالت محوطةً بعناية الله في ظعنها وإقامتها منوطةً بامتداد النِّعم وإدامتها مرفوعةً إلى غايةٍ يقصر النجم أن يساميها وتضحي الشمس دون وساميها . ولا برحت رحال الرجاءتحطّ برحابها وجنائب الثناء تحثّ إلى جنابها ونتائج الألباب تهدي لبابها . وينهي شوقه الذي تكاد حصاة القلب منه تذوب إلى لثم تلك اليد التي تعلم منها الغيث كيف يصوب . والأنعم التي وسمت بها مغناي وهو جديب والمكارم التي تجفّ ضروع المزن وهي حلوب . حيث وضوح محجَّة الحجى واتساع أرجاء الرجا ومهب رخاء الرخا وانتظام سحاب السخاء . إذ ظلال الآداب وارفة وشمس الأفضال طالعة ليست بكاسفة . فرعى الله وحيَّ وسقى وصان وحمى ووقى . ولا عدمت أندية الآداب أنداء ذلك السحاب ولا غاب عن غاب الأقلام بأس ذلك الضِّرغام ما شوق العليل إلى الشِّفا والحجيج إلى الصَّفا والمشرد إلى الوطن والمسهَّد إلى الوسن والظمآن إلى الماء والحرث إلى أسماء . بأكثر كلفاً ولا أشد شغفاً من المملوك إلى اقتباس تلك الفوائد والتماس تلك الفرائد قرَّب الله مغناها ما أسناها ولا أبعد مسراها فما أسراها إنها العقائل الشريفة بشرف القائل ولها من نفسها طرب كما في ابنة العنب : من الخفيف .
لا تخافي إن غبت أن نتناسا ... ك ولا إن واصلتنا أن نملاّ .
إن تغيبي عنا فسقياً ورعياً ... أو تلمِّي بنا فأهلاً وسهلا .
أيها السيد وما خلت البقاع والإمام الذي انعقد على فضله الإجماع والماجد الذي محامده ملء الأبصار والأفواه والأسماع . صفحاً عن قريحةٍ ما أومضت حتى خبت ولا مضت حتى كبت ولا مضت حتى نبت ولا امتدّ لها ظل العيش حتى تقلّص ولا ساغ لها ورده حتى غصّص وتنغَّص . ولا أطلّ سحابه حتى أقلع ولا أظلّ حتى تقشَّع ولا سلَّم بنان بيانها حتى ودَّع . كرَّت عليها الكروب وتخطَّت إليها الخطوب وتوالت عليها الهموم فلم تدع لها همَّه ورمتها الحوادث بكل ملمّة . تسوِّد القلب وتبيِّض اللِّمَّة . فلا غرو إن أصبحت كليلةً من الأفراح ودمنةً من الأتراح . تدعى ولا تجيب وما ذاك بعجيب . إن شاء المملوك منها إنشاءً أبت إلى إباءً وقال : النجاة النجاة . فبضاعتك مزجاة . عدِّ عن هذا السبيل لست من هذا القبيل . فقلت لما أعطت منعها وأكثرت ردَّها وردعها : لا يكلِّف الله نفساً إلا وسعها . إن الهدايا على مقدار مهديها . ولما شجع المملوك نفسه بهذه المقالة شفع هذه الرسالة بأبياتٍ تباريها في الثناء وتجاريها في حلبة الدعاء . وأقدم على هذا العرض الأدنى على ذلك الجوهر الأسنى . وقابل ذلك المقام بهذا المقال بعد أن استقال . وقال : من الطويل .
سلا قلبه إن كان عن حبكم سلا ... وهل مال يوماً عن هوى ذلك الملا .
وهل زال من بعد البعاد وداده ... وهل حال عن تلك المعاطف والحلا .
سقى الله أيام الوصال وعيشنا ... رقيق الحواشي لا ينغَّص بالقلى .
لياليَّ روض الجزع فيهنَّ ما ذوى ... ومعهد ليلى الأخيلية ما خلا .
سحبت بها ذيل المسرَّة والصِّبا ... وحالفت لذِّاتٍ وخالفت عذَّلا .
لقد طال ليلي بعدهنَّ كأنه ... بسود فروع الغانيات توصَّلا .
فكم كلفٍ مثلي بمنعرج اللِّوى ... تكلف أثقال الهوى وتحمَّلا .
له مقلةٌ عبرى تجود بمائها ... وقلبٌ من البين المجدِّ تجدَّلا .
ما كلُّ جفنٍ مثل جفني مسهَّد ... ولا كلُّ قلبٍ مثل قلبي مبتلى .
منها : .
ولّما وقفنا بالمطايا عشيَّةً ... على الطلل البالي وقلنا له الا .
أذنَّنا لأخلاف الدموع فأحلفت ... وفاضت إلى أن انبت العشب والكلا .
منها : .
وعاذلةٍ في سوء حظي جهالةً ... ولا ذنب لي في سوء حظي لتعذلا .
ولو يصلح الإنسان بالجدِّ حظَّه ... لأوسعت في إصلاح حالي التَّحيُّلا .
وقائلةٍ قد جلَّ منصب جلَّقٍ ... فقلت لها : ما ذاك بدعٌ وكيف لا ؟ !