قلت أنا : وكتب رسالته المشهورة عنه إلى أبي حمير سبأ بن أبي السعود أحمد بن المظفر بن عليّ الصُّليحيّ اليمانيّ بعد انفصاله عنه . رواها الحافظ أبو الطاهر السِّلفي عنه سنة اثنتين وستين وخمس مائة والرسالة المذكورة : كتب عبد حضرة السُّلطان الأجلِّ مولاي ربيع المجدبين وقريع المتأدبين جلاء الملتبس وذكاء المقتبس شهاب المجد الثاقب ونقيب ذوي المناقب أطال الله بقاءه وأدام علوَّه وارتقاءه ما أجابت العادية المستغير ولزمت الياء التصغير وجعل رتبته في الأوَّليَّة وافرة السِّهام كحرف الاستفهام وكالمبتدأ لأنه وإن تأخَّر في النَّية فإنه مقدَّمٌ في النِّيَّة . ولا زالت حضرته للوفود مزدحماً ومن الحوادث حمىً حتى يكون في العلاء بمنزلة حرف الاستعلاء فإنَّهنَّ لحروف اللين حصونٌ وما جاورهنَّ على الإمالة مصونٌ ولا زال عدوُّه كالألف في أنَّ حالها يختلف فتسقط في صلة الكلام لا سيَّما مع اللاَّم . ولا يكون أولاً بحالٍ وإن تقدمَّم همز فاستحال لأنه أدام الله علوَّه أحسن إليَّ ابتداءً ونشر عليَّ من فضله رداءً أراد إخفاءه فكشف خفاءه . ومن شرف الإحسان سقوط ذكره عن اللِّسان كالمفعول رفع رفع الفاعل الكامل لَّما حذف من الكلام ذكر العامل . يهدي إليه سلاماً ما الرَّوض ضاحكه النَّوض غرس وحرس وسقي ووقي وغيث وصيب فأحذ من كل نوء بنصيبٍ زهاه الزَّهر وسقاه النهر . جاور الأضا فحسن وأضا . رتعت فيه الفور ومرح به العصفور فطَّلع من التِّمراد وقد ظفر بالمراد . فنظر إلى أقاحيه تفترُّ في نواحيه وإلى البهار يضاحك شمس النهار فجعل يلثم من ورده خدوداً ويهصر من أغصانه قدوداً ويقتبس النار من الجلَّنار ويلتمس العقيق من الشقيق . فغرَّد ثملاً وغنَّى خفيفاً ورملاً بأطيب من نفحته المسكيَّة وأعطر من رائحته الزكيَّة . مع أني وإن أهديته في كلِّ أوانٍ عن أداء ما يجب عليّ غير وأنٍ أعدُّ نفسي السُّكيت لَّلاحق لما يجب عليَّ من الحقِّ . أثرت فعثرت وجهدت فما أثرت . فأنا بحمد الله في حال خمولٍ وقنوعٍ وجنابٍ عن غير الغير ممنوعٍ فارقت المتَّج بأزل ولزمت الخمول والاعتزال سعيى الجاهد وعيشي عيش الزاهد . ببلدٍ الأديب فيه غريبٌ والأريب كالمريب إن تكلًّم استثقل وإن سكت استقلل . منازله كبيوت العناكب ومعيشته كعجالة راكب فهو كما قال أبو تمام حيث قال : من الكامل .
أرض الفلاحة لو أتاها جرولٌ ... أعني الحطيئة لاغتدى حرَّاثا .
لم آتها من أيِّ بابٍ جئتها ... إلاَّ حسبت بيوتها أحداثا .
تصدى بها الأفهام بعد صقالها ... وتردُّ ذكران العقول إناثا .
ارضٌ خلعت اللَّهو خلعي خاتمي ... فيها وطلَّقت السُّرور ثلاثا .
وأما حال عبده بعد فراقه في الجلد فما حال أمِّ تسعةٍ من الولد ذكورٍ كأنهم عقبان وكورٍ . اخترم منهم ثمانيةٌ فهي على التاسع حانية . نادى النذير في البادية : يا للعادية بالعادية . فلما سمعت الداعي ورأت الخيل وهي سواعي جعلت تنادي ولدها : الأناة الأناة وهو يناديها : القناة القناة . من الكامل .
بطلٌ كأنَّ ثيابه في سرجه ... يحذى نعال السِّبت ليس بتوأم .
فحين رأته يختال في غضون الزَّرد المضون أنشأت تقول : من المتدارك .
أشدٌ أضبط يمشي ... بين طرفاءٍ وغيل .
لبسه من نسج داود ... كضحضاح المسيل .
فعرض له في العادية أسدٌ هصورٌ كأنَّ ذراعه مسدٌ معصورٌ : من الكامل .
فتطاعنا وتوافقت خيالهما ... وكلاهما بطل اللِّقاء مقنَّع .
فلما سمعت صياح الرعيل برزت من الصِّرم بصبرٍ قد عيل فسألت عن الواحد . فقيل لها : لحده الَّلاحد : من الوافر .
فكرَّت تبتغيه فصادفته ... على دمه ومصرعه السِّباعا .
عبثن به فلم يتركن إلاَّ ... أديماً قد تمزَّق أوكراعا .
بأشدَّ من عبده تأسفاً ولا أعظم كمداً ولا تلهُّفاً . وإنَّه ليعنِّف نفسه دائماً ويقول لها لائماً : لو فطنت لقطنت ولو عقلت لما انتقلت ولو سعدت لما بعدت . فتقول له مجيبةً : ليس كما ظننت بل لو قدمت لندمت ولو رجعت لما هجعت . من الطويل .
يقيم الرِّجال الموسرون بأرضهم ... وترمي النَّوى بالمقترين المراميا