ووضع في حال الرصد آلات ما سبق إليها وصنف فيها رسالة وبقيت أنا ثماني سنين في خدمة الرصد وكان غرضي تبين ما يحكيه بطليموس عن نصبه في الأرصاد وصنف الشيخ كتاب : الإنصاف .
وكان أبو عليٍّ قوي المزاج يغلب عليه حب النكاح حتى أنهكه ملازمة ذلك وأضعفه ولم يكن يداري مزاجه وعرض له قولنج فحقن نفسه في يوم واحد ثماني مراتٍ فقرح بعض أمعائه وظهر به سحجٌ واتفق سفره مع علاء الدولة فحدث له الصرع الحادث عقيب القولنج فأمر باتخاذ دانقين من كرفس في جملة ما يحقن به وخلطه بها طلباً لكسر الرياح فقصد بعض الأطباء الذي كان يتقدم هو إليه بمعالجته وطرح من بزر الكرفس خمسة دراهم لست أدري فعله عمداً أو خطأً ؛ لأنني لم أكن معه فازداد السحج به من حدة ذلك البزر وكان يتناول المثرود يطوس لأجل الصرع فقام بعض غلمانه وطرح فيه شيئاً كثيراً من الأفيون وناوله فأكله وكان سبب ذلك خيانتهم له في مالٍ كثيرٍ من خزانته فتمنوا إهلاكه ؛ ليأمنوا عاقبة أعمالهم .
ونقل الشيخ إلى أصبهان فاشتغل بتدبير نفسه وكان من الضعف بحيث لا يقدر على القيام ولم يزل يعالج نفسه حتى قدر على المشي وحضر مجلس علاء الدولة ولكنه مع ذلك لا يتحفظ ويكثر التخليط في أمر المجامعة ولم يبرأ كل البرء وكان ينتكس كل وقتٍ ويبرأ .
ثم قصد علاء الدولة همذان فسار معه الشيخ فعاودته تلك العلة في الطريق إلى أن وصل همذان وعلم أن قوته قد سقطت وأنها لا تفي بدفع المرض ؛ فأهمل مداواة نفسه وقال : " المدبر الذي كان يدبر بدني قد عجز عن التدبير فلا تنفع المعالجة " .
ثم اغتسل وتاب وتصدق بما معه على الفقراء ورد المظالم على من عرفه وأعتق مماليكه وجعل يختم في كل ثلاثة أيام ختمةً .
ثم انتقل إلى جوار ربه D يوم الجمعة في شهر رمضان سنة ثمان وعشرين وأربعمائة وعمره ثمانية وخمسون سنة وكان مولده في صفر سنة سبعين وثلاثمائة . انتهى .
قلت : ولم يأت في الإسلام بعد أبي نصر الفارابي من قام بعلوم الفلسفة مثل الشيخ الرئيس أبو عليٍّ إلا أن عبارته أفصح وأعذب وأحلى وأجلى . وما كان كلام الأطباء قبله إلا كلام عجائز حتى جاء الرئيس . وأتى بالقانون فكأنه خطب لبلاغة معانيه وفصاحة ألفاظه .
وكان الإمام فخر الدين لا يطلق لفظ الشيخ إلا عليه وكان يحفظ الإشارات التي له بالفاء والواو ويكتبها من حفظه وحكايته مع القطب المصري فيما يدل على تعظيم الرئيس . مرت في ترجمة قطب الدين إبراهيم بن عيل المصري .
ولما اختصر الإمام فخر الدين الإشارات التي للرئيس جاء إلى : مقامات العارفين وأورده بلفظه ؛ لأنه لم يقدر على الإتيان بأحلى من تلك العبارة وقال : " هذا الباب لا يقبل الانتخاب لأنه في غاية الحسن وما محاسن شيء كله حسنٌ ؟ " .
وجاء في كلام الرئيس في النمط التاسع أن قال : " جل جناب الحق أن يكون شريعةً لكل وارد أو يطلع عليه إلا واحدٌ بعد واحد ؛ ولذلك فإن ما يشتمل عليه هذا الفن ؛ ضحكةٌ للمغفل عبرة للمحصل فمن سمعه فاشمأز عنه فليتهم نفسه فلعله لا يناسبه وكل ميسرٌ لما خلق له . " انتهى .
قلت : وقد رأيت القاضي الفاضل C قال في بعض فصوله : وقال ابن سينا - قلقل الله أنيابه بكلاليب جهنم : جل جناب الحق أن يكون شرعةً لكل وارد أو يطلع عليه إلا واحدٌ بعد واحد . وأخذ يعاكسه ويظن أجساد ألفاظه تكون لهذه الأرواح هياكل أو أن كلماته المزوقة تكون للباب هذه المعاني قشوراً فتشدق وتفيهق وتمطى وتمطق : من البسيط .
من أين أنت وهذا الشأن تذكره ... أراك تقرع باباً عنك مسدودا .
إلا أن الرئيس أبا عليٍّ كان من فلاسفة الإسلام وعدة العلماء في الحكماء .
قال تاج الدين محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في كتاب الملل والنحل :