قلت وقد رأيت بعضهم ينكر جبنه واعتذر له بأن قال أنّه كان يهاجي قريشاً ويذكر مساؤئهم ولم يبلغنا أن حداً عيّره بالجبن والفرار من الحروب . وقد هجا الحارث بن هشام المخزومي بالبيتين اللَّذين تقدّما في ترجمته وما أجابه بما ينقض عليه بل اعتذر عن فراره أو كما قال : وقال ابن الكلبي أن حسَّان كان لسناً شجاعاً فأصابته علّة أحدثت له الجبن فكان بعد ذلك لا يقدر بنظر إلى قتال ولا يشهده . قال ابن عساكر قال عطاء بن أبي رباح : دخل حسّان على عائشة بعدما عمي فوضعت له وسادة فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر فقال : أجلسته على وسادة وقد قال ما قال ؟ فقال أنه تعنَّى كان يجيب عن رسول الله A ويشفي صدره من أعدائه وقد عمي وإنّي لأرجو أن لا يعذَّب في الآخرة انتهى .
قلت : أراد عبد الرحمن بن أبي بكر ما قاله حسّان في قصة الإفك لأن الذين تحدثوا في شأن عائشة كانوا جماعةً : عبد الله بن أبي بن سلون ومسطح بن أثاثة وحسّان بن ثابت وحمنة بنت جحش وقوله تعالى : والذي تولَّى كبره منهم له عذابٌ عظيم . قال المفسرون : هو حسان بن ثابت أو عبد الله بن أبيّ بن سلول وتاب الله على الجماعة إلاّ عبد الله السّلوليّ فإنه مات منافقاً وقيل لعائشة : لم تأذنين لحسّان عليك والله يقول : والَّذي تولَّى كبره منهم له عذابٌ عظيمٌ فقالت : وأيُّ عذاب أشدّ من العمى . ولما أنشد حسّان عائشة شعره الذي منه قوله : من الطويل .
حصان رزانٌ ما تزنُّ بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل .
قالت له : لكنك لست كذلك . وقعد صفوان بن المعطّل لحسان بسبب قصة الإفك وضربه بالسيف وهذه القصة مذكورة في مواطنها من كتب التفسير والحديث مستوفاة هناك وليس هذا مكان استقصائها . وقال حسان للنبي A لما طلبه بهجو قريش : لأسلَّنك منهم سلّ الشعرة من العجين ولي مقول ما أحب أنّ لي به مقول أحدٍ من العرب وإنّه ليفري ما لا تفريه الحربة . ثم أخرج لسانه فضرب به أنفه . كأنه لسان شجاع بطرفه شامة سوداء ثم ضرب به ذقنه وقال : لأفرينَّهم فري الأديم فصبَّ على قريش منه شابيب شرّ فقال : اهجهم كأنك تنضحهم بالنبل . فهجاهم فقال رسول الله A : لقد شفيت يا حسان وأشفيت .
وعن النبي A : ذاك حاجز بيننا وبين المنافقين لا يحبه إلاّ مؤمن ولا يبغضه إلاّ منافق .
وعن محمد بن سيرين قال : كان يهجو النبيَّ A جماعةٌ من قريش : عبد الله بن الزِّبعري وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعمرو بن العاص . فقال حسّان : يا رسول الله ايذي لي في الرَّدِّ عليهم فقال النبي A : فكيف وهو منّي يعني أبا سفيان . فقال : والله لأسلنَّه منك كما تسلُّ الشَّعرة من العجين فقال النبي A : يا حسان فائت أبا بكرٍ فإنه أعلم بأنساب القوم منك . فأتاه فقال له : كفَّ عن فلانة واذكر فلانة فقال حسّان : من الوافر .
هجوت محمداً فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء .
فإنّ أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمّدٍ منكم وقاء .
أتهجوه ولست له بكفءٍ ... فشرُّكما لخيركما الفداء .
قلت : قال علماء الأدب هذا أنصف بيت قالته العرب ولما ورد وفد تميم على النبي A للمفاخرة على ما ذكر في ترجمة ثابت بن قيس بن شماس وقام خطيبهم وقال ما قال وقام ثابت بن قيس وقال ما قال قام الزبرقان من الوفد المذكور وقال : من البسيط .
نحن الملوك فلا حيٌّ يقاربنا ... منا الملوك وفينا يوجد الربع .
كم قد قسرنا من الأحياء كلِّهم ... عند النِّهاب وفضل العزِّ يتَّبع .
وننحر الكوم عبطاً في منازلنا ... للنازلين إذا ما استطعموا شبعوا .
ونحن نطعم عند القحط ما أكلوا ... من العبيط إذا لم يظهر القزع .
ونبصر الناس تأتينا سراتهم ... من كل أوبٍ فنمضي ثم نتَّبع .
فأرسل رسول الله A إلى حسان فجاء فأمره أن يجيبه فقال : من البسيط .
إن الذوائب من فهرٍ وإخوتهم ... قد بيَّنوا سنَّةً للناس تتَّبع .
يرضى بهم كلُّ من دانت سريرته ... تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا