وسأل أبا الحسن علي بن عيسى الربعي عن مسألة فأجاب جواباً أخطأ فيه فقال له : أصبت فقبل الأرض شكراً فلما رفع رأسه قال له : عين الخطأ . وعزل الصاحب عاملاً بقم فكتب إليه : أيها العامل بقم قد عزلناك فقم ! .
وما عظم وزيراً مخدومه وما عظم فخر الدولة الصاحب ابن عباد . قال الصاحب : ما استأذنت على فخر الدولة قط وهو في مجلس أنسه إلا انتقلا إلى مجلس الحشمة وأذن لي فيه وما أذكر أنه تبذل بين يدي أو مازحني قط إلا مرة واحدةً فإنه قال لي : بلغني أنك تقول : إن المذهب مذهب الاعتزال والنيك نيك الرجال . فأظهرت الكراهة لانبساطه وقلت : بنا من الجد ما لا نفرغ معه للهزل ! .
ونهضت . وقال الصاحب يوماً : كان أبو الفضل يعني ابن العميد سيداً ولكن لم يشق غبارنا ولا أدرك شوارنا ولا فسخ عذارنا ولا عرف غرارنا ولا في علم الدين ولا فيما يرجع إلى نفع المسلمين . فأما ابنه فقد عرفتم قدره في هذا وفي غيره طياش قلاش ليس عنده إلا قاش وقماش مثل ابن عياش والهروي الحواشي . وولدت والشعري في طالعي ولولا دقيقة لأدركت النبوة وقد أدركت النبوة إذ قمت بالذب عنها والنصرة لها فمن ذا يجارينا أو يمارينا أو يبارينا أو يغارينا ويسارينا ويشارينا ؟ ولم يكن الصاحب يقوم لأحد من الناس ولا يشير إلى القيام ولا يطمع أحد في ذلك منه من أرباب السيوف أو الأقلام أميراً كان أو مأموراً . ونزل بالصيمرة عند عودة من الأهواز فدخل عليه شيخ من المعتزلة زاهد يعرف بعبد الله بن إسحاق فقام له فلما خرج قال : ما قمت لأحد مثل هذا القيام منذ عشرين سنةً ! .
وإنما فعل ذلك لزهده لأنه كان أحد أبدال دهره .
ولم يجتمع بباب أحد من الملوك والخلفاء والوزراء مثل ما اجتمع بباب الرشيد كأبي نواس وأبي العتاهية والعتابي والنمري ومسلم بن الوليد وأبي الشيص وابن أبي حفصة ومحمد بن مناذر . وجمعت حضرة الصاحب بأصبهان والري وجرجان مثل أبي الحسين السلامي والرستمي وأبي القاسم الزعفراني وأبي العباس الضبي والقاضي الجرجاني وأبي القاسم ابن أبي العلاء وأبي محمد الخازن وأبي هاشم العلوي وأبي الحسن الجوهري وبني المنجم وابن بابك وابن القاشاني والبديع الهمذاني وإسماعيل الشاشي وأبي العلاء الأسدي وأبي الحسن الغويري وأبي دلف الخزرجي وأبي حفص الشهرزوري وأبي معمر الإسماعيلي وأبي الفياض الطبري وأبي بكر الخوارزمي ومدحه مكاتبةً الرضي الموسوي وأبو إسحاق الصابي وابن الحجاج وابن سكرة وابن نباتة وغيرهم . وأما المتنبي فإنه قال : بلغني أن أصبهان غليماً معطاء ولم يدخل إصبهان ولا مدحه وكان الصاحب لما بلغه وصوله تلك البلاد أباع داراً له بخمسين ألف درهم وأرصدها للمتنبي إن جاء إليه ومدحه فلما بلغه ما قاله المتنبي أعرض عنه وتتبع شعره وأملي رسالةً على ذم شعره . وأما أبو حيان التوحيدي فإنه أملي في ذمه وذم ابن العميد مجلدةً سماها ثلب الوزيرين أتى فيها بقبائح فمن ذلك ما ذكره في حق الصاحب أنه ناظر بالري يهودياً هو رأس الجالوت في إعجاز القرآن فراجعه اليهودي فيه طويلاً وماتنه قليلاً وتنكد عليه حتى احتد وكان ينقد وتستشيط وتلتهب وتختلط ؟ كيف يكون القرآن عندي آيةً ودلالةً ومعجزةً من جهة نظمه وتأليفه ؟ فإن كان النظم والتأليف بديعين وكان البلغاء فيما يدعى عنه عاجزين وله مذعنين وها أنا أصدق عن نفسي وأقول : ما عندي أن رسائلك وكلامك وفقرك وما تؤلفه وتباده به نظماً ونثراً هو فوق ذلك أو مثل ذلك وقريب منه وعلى حالٍ ليس يظهر لي أنه دونه وأن ذلك سيستعلى عليه بوجه من وجوه الكلام أو بمرتبة من مراتب البلاغة ! .
فلما سمع ابن عباد هذا فتر وخمد وسكن عن حركته وانحمص ورمه به وقال : ولا هكذا يا شيخ ! .
كلامنا حسن وبليغ وقد أخذ من الجزالة خطاً وافراً ومن البيان نصيباً ظاهراً ولكن القرآن له المزية التي لا تجهل والشرف الذي لا يخمل وأين ما خلقه الله على أتم حسنٍ وبهاء مما يخلقه العبد بطلبٍ وتكلف ؟ هذا كله يقوله وقد خبا حميه وتراجع مزاجه وصارت ناره رماداً مع إعجاب شديدٍ قد شاع في أعطافه وفرح غالبٍ قد دب في أسارير وجهه لأنه رأى كلامه شبهةً لليهود وأهل الملل . وقال كان ينشد شعره وهو يلوي رقبته ويجحظ حدقته وينزي أطراف منكبيه ويتشايل ويتمايل كأنه " الذي يتخبَّطه الشيّطان من المسِّ "