- روى الترمذي والديلمي مرفوعا : [ [ لا يقبل الله تعالى من عبد عملا حتى يشهد قلبه مع بدنه ] ] .
وروى الترمذي والنسائي وابن خزيمة في صحيحه مرفوعا : [ [ الصلاة مثنى مثنى تشهد في كل ركعتين وتخشع وتضرع وتمسكن وتبأس وتقنع من لم يفعل ذلك فهي خداج ] ] . وقوله تبأس معناه إظهار البؤس والفاقة وقوله تمسكن من المسكنة والوقار وقوله تقنع أي يرفع يديه في الدعاء وقوله خداج أي ناقصة الأجر والفضل . وروى الطبراني مرفوعا : [ [ إذا صلى العبد فلم يتم صلاته بخشوعها وركوعها لم تقبل منه ] ] . وفي رواية له : [ [ أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع حتى لا ترى فيها خاشعا ] ] . وروى الطبراني وأبو داود وغيره : أن رسول الله A كان إذا صلى يسمع لصوته أزيز كأزيز المرجل من البكاء يعني أن لصوته وقلبه أنينا كصوت غليان القدر على النار القوية والأزيز بزاءين معجمتين . وروى الطبراني أن عبدالله بن مسعود كان إذا صلى كأنه ثوب ملقى من شدة الخشوع . وروى الطبراني مرفوعا : [ [ ثلاثة يحبهم الله D : تعجيل الفطر وتأخير السحور وضرب اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة ] ] . أي لأنها صفة الخاشعين . والله تعالى أعلم .
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله A ) أن لا نتهاون بترك الحضور مع الله تعالى في صلاتنا وجميع طاعاتنا ولا بالخشوع فيها لأن روح كل عبادة هو الحضور والخشوع فيها وما امرنا الله تعالى بفعل طاعة إلا لنشهده تعالى فيها وكل عبادة لا تجمع العبد بقلبه على الله تعالى فهي عيادة لا عبادة فلا أجر فيها ومن قال من الفقراء إن الخشوع في الصلاة لا يضر تركه فقد أخطأ طريق الكمال وإذا كان حامل القرآن والعلم يترخص هذا الترخص فبمن يقتضي الناس .
فيحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى السلوك على يد شيخ صادق حتى يزيل حجبه وعوائقه التي تبعده عن دخول حضرة الله تعالى ويدخله حضرات القرب ويصير الخشوع لله تعالى من شأنه لا يتكلف له وأما من أكل ونام ولغا في الكلام وارتكب الآثام وشبع حتى صار بطنه كبطن الدب من الحرام والشبهات فمن أين يأتيه الخشوع فإنهم أجمعوا على أن من شبع من الحلال قسا قلبه فكيف بمن شبع من الحرام وهذا حال أكثر الناس اليوم فيتعاطى أحدهم أسباب قسوة القلب ثم يقوم للصلاة ويطلب يحضر مع الله ويخشع وجوارحه كل جارحة في بلد أو حارة وذلك لا يصح وقد قالوا في المثل السائر : من مشى في غير طريق يتيه ولو كان في النهار .
فاسلك يا أخي على يد شيخ ليدلك على طريق الوصول إلى الحضور والخشوع ولا تكبر نفسك عليه وتقول أنا عالم فتخسر فإن من شرط العلم أن يعرف دواء كل علة وينزل الدواء على الداء ومن قال دواء الحمى مثلا كذا وكذا وهو لم يعرف الحمى كأنه لم يعلم شيئا وقد ذكرنا في عهود المشايخ أنه يجب على كل فقيه أن يتخذ له شيخا يدله على الطريق التي تسهل عليه الوصول إلى درجة العمل بما علم ليكمل نفعه لنفسه وللناس ولا يكون كالشمعة التي تضيء على الناس وتحرق نفسها وقد قال تعالى : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر } . أي أكبر ما فيها كتلاوة القرآن غافلا والركوع والسجود وغير ذلك والمراد بذكر الله هنا شهود العبد ربه بقلبه أو علمه بأنه في حضرته تعالى والحق ناظر إليه فمن صلى كذلك نهته صلاته عن الفحشاء والمنكر خارجها لاستصحاب شهوده إن الله تعالى يراه التي هي حضرة الإحسان وأما من لم يحضر في صلاته فليس معه من الحضور ذرة حتى يستصحبها خارج الصلاة وذلك تجد خلقا كثيرا مواظبين على الصلاة ويقعون في كل فاحشة ورذيلة وهذا أولى من تفسير من قال المراد بكون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر أنه ما دام فيها يحرم بها إلى أن يسلم منها لا يتصور منهم معصية فتأمل ذلك وحرره .
واعلم يا أخي أن من لم يتصور له الحضور في الصلاة ففي حضرة خسر هو والله لا يحب الخاسرين .
وقد قال بعضهم : إن العبد لا يتنعم في الآخرة إلا بمقام حصله هنا وإن كل من لم يحصل مقاما في هذه الدار لا يعطاه في الآخرة : { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } . لحجابهم عن دخول حضرته في دار الدنيا وإن تفاوت حجاب المؤمن والكافر .
وسمعت سيدي عليا الخواص C يقول : لولا دخول الأولياء حضرة الإحسان ما حفظوا من المعاصي . قال : وقد دخلها الإمام الليث بن سعد والإمام الشافعي Bهما فكان كل واحد منهما يقول أنا أعرف شخصا في عصرنا هذا من منذ وعى على نفسه ما أتى معصية قط فكان أصحابه يعرفون أنه يعني بذلك نفسه لأن أحدا لا يعرف ذلك من غيره إلا من طريق الكشف على أنه قد يحصي الله تعالى على عبده ما لم يخطر له على بال . ثم من المعلوم أن حضرة الإحسان لا يتصور دخول إبليس فيها أبدا ولو بحيلة من الحيل إذا لو صح دخوله لها لم يبق أحد تضاف إليه المعاصي بالوسوسة حتما فتعين أنه لا يدخلها وإن من وقع له وسوسة في صلاته وادعى أنه في حضرة الإحسان فهو غير صادق في دعواه ومن هنا عصمت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لعكوفهم في حضرة الإحسان على الدوام حتى في حال أكلهم وجماعهم ومزاحهم .
وسمعت أخي أفضل الدين يقول لفقيه رآه يقفز في الصلاة ليصطاد النية من الهواء كيف تطلب النية والحضور والخشوع مع الله وكل عضو منك في واد مربوط بعلاقة شهوة من الشهوات فاقطع علائقك أولا ثم صل وإلا فلا يمكنك أن تقطع علائقك كلها حال إحرامك ومن لازمك الالتفات لغير الله تعالى في صلاتك فلا يصح لك حضور ولا خشوع .
وقد كان السلف الصالح Bهم لا يسامحون مريدهم في حضور شيء من الدنيا على باله وهو الصلاة بل كان الجنيد Bه يقول للشبلي : يا أبا بكر إن خطر في بالك من الجمعة إلى الجمعة غير الله فلا تعد تأتينا فإنه لا يجيء منك شيء . فلا تظن يا أخي أن هذا المشهد من أعلى المقامات وإنما هو من أوائل مقامات المريدين وذلك لأن أول قدم يضعه المريد في الطريق يشهد الخالق للذوات ويحجب عن الوقوع مع اللذات كمن وصل إلى مجالسة السلطان لا يلتهي عنه بمشاهدة غلام يخدم خيل بعض جنده يحجبه بذلك الجمال البديع عن رؤية غيره .
ومن كلام الجنيد C من شهد الحق تعالى لم يرى الخلق ولا يجمع بين رؤية الحق تعالى والخلق معا في آن واحد إلا رسول الله A وكمل ورثته وهذا الأمر لا يدرك إلا ذوقا .
وقد كان الشيخ معروف الكرخي Bه يقول لي ثلاثون سنة أكلم الله والناس يظنون أني أكلمهم .
وأخبرني الشيخ يوسف الكردي من أصحاب سيدي إبراهيم المتبولي وكان يجتمع بالخضر عليه السلام كثيرا قال : كنت مع سيدي إبراهيم في مصر ثم رجعنا إلى بركة الحاج فمر على بستان النخيل الذي غرسه في البركة فقال سيدي إبراهيم ما هذه النخيل ؟ فقلنا هذا بستانكم فقال من غرسه فقلنا له أنتم فقال : وعزة ربي أنا لي منذ سبعة عشر سنة ما خرجت من حضرة الله تعالى ولكن أستحي إن خطر على بالي وأنا في حضرة الله أن أغرس بستانا أو أبني زاوية يأوي إليها الغرباء والحجاج فلعل الله تعالى أرسل ملكا على صورتي فغرسه هذا لفظه لي Bه .
فاعلم أن من لم يسلك طريق القوم فهو واقف مع شهود الخلق دون الحق فلا يحصل له خشوع غالبا لعدم إدراكه لتجليات الحق جل وعلا التي دكت الجبال دكا وخر منها السيد موسى E صعقا .
وكان سيدي علي المرصفي C يقول : ما قطع بعض أهل الجدال عن الوصول إلى مقامات الأولياء وكراماتهم إلا دعواهم أنهم أعلم بالله منهم وخوفهم على علمهم الذي به رياستهم أن ينسى حين يتبعون طريق الفقراء وهو خديعة من النفس والشيطان فإن طريق الفقراء لا تزيدهم ألا علما إلى علمهم وجلاء لقلوبهم وحضورا في عبادتهم . قلت : وليس مرادنا بالفقراء هؤلاء الذين ظهروا في النصف الثاني من القرن العاشر في الزوايا وعقدوا مجالس الذكر فإن الفقهاء بيقين أحسن من هؤلاء وأعلى مقاما لزيادتهم عليهم في العلم والفهم في الكتاب والسنة وكلام الأئمة وإنما مرادنا العارفون بالله تعالى وبسائر مذاهب المجتهدين ومقلديهم الذين أتتهم تلك العلوم من طريق الوهب وهؤلاء قليلون في مصر ولكن من صدق أوقعه الله تعالى عليهم .
وقد كان الشيخ عز الدين بن عبدالسلام C يقول : وهل ثم طريق غير ما فهمناه من الكتاب والسنة وينفي طريق القوم فلما اجتمع بسيدي الشيخ أبي الحسن الشاذلي وأخذ عنه صار يقول : ما قعد على قواعد الشريعة التي لا تهدم إلا الصوفية قال : ومما يدلك على ذلك ما يقع على يد أحدهم من الكرامات والخوارق ولا يقع شيء منها على يد غيرهم ولو بلغ في العلم ما بلغ هذا لفظه في كتاب ألفه في طريق الصوفية سماه التقريب وكذلك بلغنا عن الغزالي قبل اجتماعه بشيخه البازغاني C .
وسمعت سيدي عليا الخواص C يقول : غاية حضور العالم في الصلاة أن يتدبر فيما يقرؤه ويلقى باله لمخارج الحروف واستنباط الأحكام وهذه كلها أمور مفرقة عن الحضور مع الله تعالى فإن من الآيات ما يذهب به إلى الجنة فيشاهد ما فيها ومنها ما يذهب به إلى النار فيشاهد ما فيها ومنها ما يذهب به إلى قصة آدم ونوح وإبراهيم وعيسى وموسى ومحمد A فكيف الحضور مع الله تعالى ؟ وليس في قدرة النفس أن تشتغل بشيئين معا في آن واحد ومن هنا قال مالك C بأن إرخاء اليدين في الصلاة أولى للضعيف من وضعهما تحت صدره آخذا بيمينه يساره لأن مراعاتها تشوش على العبد وتمنعه من كمال الإقبال على مخاطبة الله D ومناجاته ولا شك أن مراعاة أدب الخطاب مع الحق أولى من مراعاة وضع اليدين تحت الصدر . فاعلم أن وضع اليدين تحت الصدر لا يؤمر به إلا من لم تشغله مراعاته عن كمال خطاب الله D من الأكابر الذين ثبتهم الله تعالى . أما الأصاغر فربما ذهلوا عن عدد ما صلوا من الركعات وما قالوه من التسبيحات لأنها حضرة تذهل العقول كما يعرف ذلك أهل الله تعالى ولولا أن الله تعالى يلطف بهم لما عرف أحد منهم عدد ما صلى . والله تعالى أعلم