- روى الطبراني مرفوعا : [ [ إن الشريعة جاءت على ثلاثمائة وستين طريقة ] ] . انتهى فلا ينبغي لأحد أن يرد على من يجادله إلا إن نظر في هذه الطرق كلها ولم يجد كلام خصمه يوافق طريقة واحدة منها وما ذكر الشارع ذلك إلا سدا لباب الجدال بغير علم تقوية للدين فإن النزاع يوهنه ويضعفه . وسمعت سيدي عليا الخواص C يقول : لا يقوم الدين إلا بالاتفاق عليه لا بالاختلاف فيه ثم لا يصح للعلماء اتفاق إلا إن خرجوا عن رق الشهوات النفسانية وما لم يخرجوا فلا يصح لهم ارتباط قلوبهم مع بعضهم بعضا أبدا . فاعلم أن أنصار الدين حقيقة هم الذين سلكوا الطريق وخرجوا من حضرة النفوس إلى حضرة الأرواح فإن الأرواح لا شهوة لها إلى شيء من الأغراض النفسانية أبدا وهناك يكون نصرتها للدين خالصة من الشوائب فاعلم ذلك واعمل عليه والله يتولى هداك . وقد روى البيهقي والترمذي وغيرهما مرفوعا وحسنه الترمذي : [ [ ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أتوا الجدل . ثم قرأ A : { ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون } ] ] . وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم ] ] . والألد : هو شديد المخاصمة . والخصم : هو الذي يحج من يخاصمه ويدحض حجته : اللهم إلا أن يقوم لنا صاحب بدعة لا يشهد لها كتاب ولا سنة فلنا إدحاض حجته نصرة لله ولرسوله وللمسلمين : والله غفور رحيم .
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله A ) أن لا نجادل في علم من العلوم الشرعية إلا بقصد نصرة الدين بشرط الإخلاص والحضور مع الله تعالى في ذلك على الكشف والشهود لا على الظن والرياء والغفلة والتخمين ومغالبة الخصوم من أهل مذهبنا أو غيرهم .
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى شيخ متضلع من علوم الشريعة قد اطلع على جميع أدلة المذاهب المستعملة والمندرسة وسلك طريق القوم في درجات الإخلاص .
وأما من أراد العمل بهذا العهد بنفسه من غير شيخ فهو يروم المحال غالبا وقد اطلعت بحمد الله تعالى على العين التي يتفرع منها جميع المذاهب في حال سلوكي وتأملت جميع مذاهب المجتهدين ومقلديهم وهي متفرعة عنها كشفا ويقينا فلم يخف علي بحمد الله تعالى من منازع أقوالهم إلا النادر ولو أنني كنت سلكت وحدي بغير شيخ لكنت محبوسا خلف حجاب التقليد للأقوال لا أعرف من أين جاءت . ف { الحمد لله رب العالمين } .
واعلم يا أخي أنه لا ينبغي لمقلد الإمام أن يسمي جماعة الإمام الآخر خصوما كقوله إن قال الخصم كذا قلت كذا فإن حسن الأدب في اللفظ من أخلاق العلماء العاملين .
وقد أطلعني إنسان مرة على كتاب في الرد على الإمام أبي حنيفة Bه فرأيت تلك الليلة في واقعة الإمام أبا حنيفة وقد تطور نحو سبعين ذراعا في السماء وله نور كنور الشمس وأجد ذلك العالم الذي رد عليه تجاهه يشبه الناموسة السوداء انتهى . وإذا كان إمامنا الشافعي Bه يقول : الناس كلهم في الفقه عيال على أبي حنيفة فكيف يسوغ لأمثالنا أن يتصدر للرد عليه ؟ هذا فوق الجنون بطبقات وقد قال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } . فأمر الله تعالى بإقامة الدين لا بإضجاعه بالتكبر على أئمته وهذا الأمر قد فشي في مقلدي المذاهب فترى كل إنسان يدحض حجة مذهب غيره حتى لا يكاد يبقى له تمسكا بكتاب ولا سنة وذلك من أقبح الخصال وإنما كان اللائق بهم الجواب عن اللائمة إما بعدم إطلاعهم على ذلك الدليل الذي ظفر به الراد عليهم وإلا بان ذلك المجتهد منزعا في الاستنباط من وجوه قواعد العربية يخفى على أمثالنا .
وقد بلغنا أن الإمام الشافعي لما دخل بغداد وزار قبر الإمام أبي حنيفة Bه حضرته صلاة الصبح فترك القنوت مع أنه يقول به فقيل له في ذلك فقال استحييت من الإمام أن أقنت بحضرته وهو لا يقول به . فرضي الله تعالى عن أهل الأدب . هذا من باب الآداب والسنن أما الواجب والحرام فإذا قام عند المجتهد دليل فيه فليس له أن يتركه أدبا مع من يخالفه فافهم .
وقد حكى الشيخ محي الدين في الفتوحات المكية أن من وراء النهر جماعة من الشافعية والحنفية لم يزل الجدال بينهم قائما طول السنة حتى أن بعضهم يفطر في رمضان ليتقوى على الجدال مع خصمه