من هرون الرشيد فإنه فرقه على قرب حتى لم يمسك لنفسه حبة واحدة .
الدرجة الرابعة أن لا يتحقق أنه حلال ولا يفرق بل يستبقى ولكن يأخذ من سلطان اكثر ماله حلال وهكذا كان الخلفاء في زمان الصحابة Bهم و التابعين بعد الخلفاء الراشدين ولم يكن أكثر مالهم حراما .
ويدل عليه تعليل على رضى الله عنه حيث قال فإن ما يأخذه من الحلال أكثر .
فهذا مما قد جوزه جماعة من العلماء تعويلا على الأكثر .
ونحن إنما توقفنا فيه في حق آحاد الناس ومال السلطان أشبه بالخروج عن الحصر فلا يبعد أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى جواز أخذ ما لم يعلم أنه حرام اعتمادا على الأغلب و إنما منعناه إذا كان الأكثر حراما فإذا فهمت هذه الدرجات تحققت أن إدرارات الظلمة في زماننا لا تجري مجرى ذلك وأنها تفارقه من وجهين قاطعين .
أحدهما أن أموال السلاطين في عصرنا حرام كلها أو أكثرها وكيف لا و الحلال هو الصدقات و الفيء و الغنيمة لا وجود لها و ليس يدخل منها شيء في يد السلطان ولم يبق إلا الجزية وأنها تؤخذ بأنواع من الظلم لا يحل أخذها به فإنهم يجاوزون حدود الشرع فى المأخوذ والمأخوذ منه والوفاء له بالشرط ثم إذا نسبت ذلك إلى ما ينصب إليهم من الخراج المضروب على المسلمين ومن المصادرات و الرشا وصنوف الظلم لم يبلغ عشر معشار عشيره .
والوجه الثاني أن الظلمة في العصر الأول لقرب عهدهم بزمان الخلفاء الراشدين كانوا مستشعرين من ظلمهم ومتشوفين إلى استمالة قلوب الصحابة و التابعين وحريصين على قبولهم عطاياهم وجوائزهم و كانوا يبعثون إليهم من غير سؤال و إذلال بل كانوا يتقلدون المنة بقبولهم ويفرحون به وكانوا يأخذون منهم ويفرقون ولا يطيعون السلاطين في أغراضهم ولا يغشون مجالسهم ولا يكثرون جمعهم ولا يحبون بقاءهم بل يدعون عليهم ويطلقون اللسان فيهم وينكرون المنكرات منهم عليهم فما كان يحذر أن يصيبوا من دينهم بقدر ما أصابوا من دنياهم ولم يكن يأخذهم بأس فأما الآن فلا تسمح نفوس السلاطين بعطية إلا لمن طمعوا في استخدامهم و التكثر بهم و الاستعانة بهم على أغراضهم و التجمل بغشيان مجالسهم وتكليفهم المواظبة على الدعاء و الثناء و التزكية والإطراء في حضورهم ومغيبهم .
فلو لم يذل الآخذ نفسه بالسؤال أولا و بالتردد في الخدمة ثانيا وبالثناء و الدعاء ثالثا وبالمساعدة له على أغراضه عند الاستعانة رابعا وبتكثير جمعه في مجلسه وموكبه خامسا وبإظهار الحب و الموالاة و المناصرة له على أعدائه سادسا وبالستر على ظلمه ومقابحه ومساوي أعماله سابعا لم ينعم عليه بدرهم واحد ولو كان في فضل الشافعي C مثلا فإذا لا يجوز أن يؤخذ منهم في هذا الزمان ما يعلم انه حلال لإفضائه إلى هذه المعاني فكيف ما يعلم انه حرام أو يشك فيه فمن استجرأ على أموالهم وشبه نفسه بالصحابة و التابعين فقد قاس الملائكة بالحدادين .
ففي أخذ الأموال منهم حاجة إلى مخالطتهم ومراعاتهم وخدمة عمالهم واحتمال الذل منهم والثناء عليهم والتردد إلى أبوابهم وكل ذلك معصية على ما سنبين في الباب الذي يلي هذا فإذا قد تبين مما تقدم مداخل أموالهم وما يحل منها وما لا يحل .
فلو تصور أن يأخذ الإنسان منها ما يحل بقدر استحقاقه وهو جالس في بيته يساق إليه ذلك لا يحتاج فيه إلى تفقد عامل وخدمته ولا إلى الثناء عليهم وتزكيتهم ولا إلى مساعدتهم فلا يحرم الأخذ ولكن يكره لمعان وسننبه عليها في الباب الذي يلي هذا النظر الثاني من هذا الباب في قدر المأخوذ وصفة الأخذ .
ولنفرض المال من أموال المصالح كأربعة أخماس الفيء والمواريث فإن ما عداه مما قد تعين مستحقه أن كان من وقف أو صدقة أو خمس فيء أو خمس غنيمة وما كان من ملك السلطان مما احياه أو اشتراه فله أن يعطي