فهذا هو علاج الصبر عن الوساوس والشواغل وهو آخر درجات الصبر وإنما الصبر عن العلائق كلها مقدم على الصبر عن الخواطر .
قال الجنيد رحمة الله السير من الدنيا إلى الآخرة سهل على المؤمن وهجران الخلق في حب الحق شديد والسير من النفس الى الله تعالى صعب شديد والصبر مع الله اشد فذكر شدة الصبر عن شواغل القلب ثم شدة هجران الخلق .
وأشد العلائق على النفس علاقة الخلق وحب الجاه فإن لذة الرياسة والغلبة والاستعلاء والاستتباع اغلب اللذات في الدنيا على نفوس العقلاء وكيف لا تكون اغلب اللذات ومطلوبها صفة من صفات الله تعالى وهي الربوبية والربوبية محبوبة ومطلوبه بالطبع للقلب لما فيه من المناسبة لأمور الربوبية وعنه العبارة بقوله تعالى قل الروح من امر ربي وليس القلب مذموما على حبه ذلك وانما هو مذموم على غلط وقع له بسبب تغرير الشيطان اللعين المبعد عن عالم الامر اذ حسده على كونه من عالم الامر فأضله واغواه وكيف يكون مذموما عليه وهو يطلب سعادة الاخرة فليس يطلب الا بقاء لا فناء فيه وعزا لا ذل فيه وأمنا لا خوف فيه وغنى لا فقر فيه وكمالا لا نقصان فيه وهذه كلها من اوصاف الربوبية وليس مذموما على طلب ذلك بل حق كل عبد ان يطلب ملكا عظيما لا آخر له وطالب الملك طالب للعلو والعز والكمال لا محالة ولكن الملك ملكان ملك مشوب بأنواع آلالام وملحوق بسرعة الانصرام ولكنه عاجل وهو في الدنيا وملك مخلد دائم لا يشوبه كدر ولا آلم ولا يقطعه قاطع ولكنه آجل وقد خلق الانسان عجولا راغبا في العاجلة فجاء الشيطان وتوسل اليه بواسطة العجلة التي في طبعه فاستغواه بالعاجلة وزين له الحاضرة وتوسل اليه بواسطة الحمق فوعده بالغرور في الاخرة ومناه مع ملك الدنيا ملك الآخرة كما قال Aوالاحمق من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني فانخدع المخذول بغروره واشتغل بطلب عز الدنيا وملكها على قدر امكانه ولم يتدل الموفق بحبل غروره اذ علم مداخل مكره فأعرض عن العاجلة فعبر عن المخذولين بقوله تعالى كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة وقال تعالى ان هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا وقال تعالى فاعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد الا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم .
ولما استطار مكر الشيطان في كافة الخلق ارسل الله الملائكة الى الرسل وأوحوا إليهم ما تم على الخلق من اهلاك العدو واغوائه فاشتغلوا بدعوة الخلق الى الملك الحقيقي عن الملك المجازي الذي لا اصل له ان سلم ولا دوام له اصلا فنادوا فيهم يا ايها الذين امنوا ما لكم اذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم الى الارض أرضيتم بالحياة الدنيا من الاخرة فما متاع الحياة الدنيا في الاخرة الا قليل .
فالتوراة والانجيل والزبور والفرقان وصحف موسى وابراهيم وكل كتاب منزل ما أنزل إلالدعوة الخلق الى الملك الدائم المخلد والمراد منهم ان يكونوا ملوكا في الدنيا ملوكا في الآخرة اما ملك الدنيا فالزهد فيها والقناعة باليسير منها واما ملك الآخرة فبالقرب من الله تعالى يدرك بقاء لا فناء فيه وعزا لا ذل فيه وقرة عين اخفيت في هذا العالم لا تعلمها نفس من النفوس .
والشيطان يدعوهم الى ملك الدنيا لعلمه بان ملك الاخرة يفوت به اذ الدنيا والاخرة ضرتان ولعلمه بأن الدنيا لا تسلم له ايضا ولو كانت تسلم له لكان يحسده ايضا ولكن ملك الدنيا لا يخلو عن المنازعات والمكدرات وطول