العبادة وترك العمل خوفا من قولهم إنه مراء هو عين الرياء فلولا حبه لمحمدتهم وخوفه من ذمهم فماله ولقولهم قالوا إنه مراء أو قالوا إنه مخلص وأي فرق بين أن يترك العمل خوفا من أن يقال إنه مراء وبين أن يحسن العمل خوفا من أن يقال إنه غافل مقصر بل ترك العمل أشد من ذلك .
فهذه كلها مكايد الشيطان على العباد الجهال ثم كيف يطمع في أن يتخلص من الشيطان بأن يترك العمل والشيطان لا يخليه بل يقول له الآن يقول الناس إنك تركت العمل ليقال إنه مخلص لا يشتهي الشهرة .
فيضطرك بذلك إلى أن تهرب فإن هربت ودخلت سربا تحت الأرض ألقى في قلبك حلاوة معرفة الناس لتزهدك وهربك منهم وتعظيمهم لك بقلوبهم على ذلك فكيف تتخلص منه بل لا نجاة منه إلا بأن تلزم قلبك معرفة آفة الرياء وهو أنه ضرر في الآخرة ولا نفع فيه في الدنيا ليلزم الكراهة والإباء قلبك وتستمر مع ذلك على العمل ولا تبالي وإن نزغ العدو نازغ الطبع فإن ذلك لا ينقطع وترك العمل لأجل ذلك يجر إلى البطالة وترك الخيرات .
فما دمت تجد باعثا دينيا على العمل فلا تترك العمل وجاهد خاطر الرياء وألزم قلبك الحياء من الله إذا دعتك نفسك إلى أن تستبدل بحمده حمد المخلوقين وهو مطلع على قلبك ولو اطلع الخلق على قلبك وأنك تريد حمدهم لمقتوك بل إن قدرت على أن تزيد في العمل حياء من ربك وعقوبة لنفسك فافعل .
فإن قال لك الشيطان أنت مراء فاعلم كذبه وخدعه بما تصادف في قلبك من كراهة الرياء وإبائه وخوفك منه وحيائك من الله تعالى وإن لم تجد في قلبك له كراهية ومنه خوفا ولم يبق باعث ديني بل تجرد باعث الرياء فاترك العمل عند ذلك وهو بعيد فمن شرع في العمل لله فلا بد أن يبقى معه أصل قصد الثواب .
فإن قلت فقد نقل عن أقوام ترك العمل مخافة الشهرة .
روي أن إبراهيم النخعي دخل عليه إنسان وهو يقرأ فأطبق المصحف وترك القراءة وقال لا يرى هذا أنا نقرأ كل ساعة .
وقال إبراهيم التيمي إذا أعجبك الكلام فاسكت وإذا أعجبك السكوت فتكلم .
وقال الحسن إن كان أحدهم ليمر بالأذى ما يمنعه من دفعه إلا كراهة الشهرة وكان أحدهم يأتيه البكاء فيصرفه إلى الضحك مخافة الشهرة .
وقد ورد في ذلك آثار كثيرة قلنا هذا يعارضه ما ورد من إظهار الطاعات ممن لا يحصى وإظهار الحسن البصري هذا الكلام في معرض الوعظ أقرب إلى خوف الشهرة من البكاء وإماطة الأذى عن الطريق ثم لم يتركه .
وبالجملة ترك النوافل جائز والكلام في الأفضل .
والأفضل إنما يقدر عليه الأقوياء دون الضعفاء فالأفضل أن يتمم العمل ويجتهد في الإخلاص ولا يتركه وأرباب الأعمال قد يعالجون أنفسهم بخلاف الأفضل لشدة الخوف فالاقتداء ينبغي أن يكون بالأقوياء .
وأما إطباق إبراهيم النخعي المصحف فيمكن أن يكون لعلمه بأنه سيحتاج إلى ترك القراءة عند دخوله واستئنافه بعد خروجه للاشتغال بمكالمته فرأى أن لا يراه في القراءة أبعد عن الرياء وهو عازم على الترك للاشتغال به حتى يعود إليه بعد ذلك وأما ترك دفع الأذى فذلك ممن يخاف على نفسه آفة الشهرة وإقبال الناس عليه وشغلهم إياه عن عبادات هي أكبر من رفع خشبة من الطريق فيكون ترك ذلك للمحافظة على عبادات هي أكبر منها لا بمجرد خوف الرياء .
وأما قول التيمي إذا أعجبك الكلام فاسكت يجوز أن يكون قد أراد به مباحات الكلام كالفصاحة في الحكايات وغيرها فإن ذلك يورث العجب وكذلك العجب بالسكوت المباح محذور فهو عدول عن مباح إلى مباح حذرا من العجب .
فأما الكلام الحق المندوب إليه فلم ينص عليه على أن الآفة مما تعظم في الكلام فهو واقع في القسم الثاني وإنما كلامنا في العبادات الخاصة ببدن