الكبيرة الحادية و الخمسون : الاستطالة على الضعيف و المملوك و الجارية و الزوجة و الدابة .
لأن الله تعالى قد أمر بالإحسان إليهم بقوله تعالى : .
{ و اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا و بالوالدين إحسانا و بذي القربى و اليتامى والمساكين و الجار ذي القربى و الجار الجنب و الصاحب بالجنب و ابن السبيل و ما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا } .
قال الواحدي : في قوله تعالى { و اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا } : أخبرنا أحمد بن إبراهيم المهرجاني بإسناده [ عن معاذ بن جبل Bه قال : كنت رديف النبي صلى الله عليه و سلم على حمار فقال : يا معاذ لبيك و سعديك يا رسول الله قال : هل تدري ما حق الله على العباد و ما حق العباد على الله ؟ قلت : الله و رسوله أعلم قال : فإن حق الله على العباد أن يعبدوه و لا يشركوا به شيئا و حق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا ] .
و [ عن ابن مسعود Bه قال : أتى النبي صلى الله عليه و سلم أعرابي فقال : يا نبي الله أوصني قال : لا تشرك بالله شيئا و إن قطعت و حرقت و لا تدع الصلاة لوقتها فإنها ذمة الله و لا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شر ] .
قوله : { و بالوالدين إحسانا } يريد البر بهما مع اللطف و لين الجانب و لا يغلظ لهما الجواب و لا يحد النظر إليهما و لا يرفع صوته عليهما بل يكون بين أيديهما مثل العبد بين يدي السيد تذللا لهما قوله : { و بذي القربى } قال يصلهم و يتعطف عليهم { و اليتامى } يرفق بهم و يدنيهم و يمسح رؤوسهم { و المساكين } ببذل يسير ورد جميل { و الجار ذي القربى } يعني الذي بينك و بينه قرابة فله حق القرابة و حق الجوار و حق الإسلام و { و الجار الجنب } هو الذي ليس بينك و بينه قرابة يقال رجل جنب إذا كان غريبا متباعدا أهله و قوم أجانب و الجنابة : البعد [ عن عائشة Bها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ] و [ عن أنس بن مالك Bه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الجار ليتعلق بالجار يوم القيامة يقول : يا رب أوسعت على أخي هذا و اقترب علي أمسي طاويا و يمسي هذا شبعان سله لم أغلق بابه و حرمني ما قد أوسعت به عليه ] .
{ و الصاحب بالجنب } قال ابن عباس و مجاهد : هو الرفيق في السفر له حق الجوار و حق الصحبة { و ابن السبيل } : هو الضعيف يجب اقراؤه إلى أن يبلغ حيث يريد و قال ابن عباس : هو عابر السبيل تؤويه و تطعمه حتى يرحل عنك { و ما ملكت أيمانكم } : يريد المملوك يحسن رزقه و يعفو عنه فيما يخطىء قوله : { إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا } قال ابن عباس : يريد بالمختال العظيم في نفسه الذي لا يقوم بحقوق الله و الفخور هو الذي يفخر على عباد الله بما خوله الله من كرامته و ما أعطاه من نعمه [ عن أبي هريرة Bه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : بينما رجل شاب ممن كان قبلكم يمشي في حلة مختالا فخورا إذ ابتلعته الأرض فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة ] و [ عن أسامة قال : سمعت ابن عمر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من جر ثوبه خيلا لم ينظر الله إليه يوم القيامة ] هذا ما ذكره الواحدي .
[ و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم عند خروجه من الدنيا في آخر مرضه يوصي بالصلاة و بالإحسان إلى المملوك و يقول : الله الله الصلاة و ما ملكت أيمانكم ] .
و في الحديث : [ حسن الملكة يمن و سوء الملكة شؤم ] و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا يدخل الجنة سيء الملكة ] .
قال [ أبو مسعود Bه : كنت أضرب مملوكا لي بالسوط فسمعت من صوتا من ورائي : اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام قال قلت يا رسول الله لا أضرب مملوكا لي بعده أبدا ] و في رواية سقط السوط من يدي من هيبة رسول الله صلى الله عليه و سلم و في رواية : فقلت هو حر لوجه الله فقال : [ أما إنك لو لم تفعل للفحتك النار يوم القيامة ] رواه مسلم و روى مسلم أيضا من حديث ابن عمر Bهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من ضرب غلاما له حدا لم يأته أو لطمه فكفارته أن يعتقه ] و من حديث حكيم بن حزام قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا ] .
و في الحديث من ضرب بسوط ظلما اقتص منه يوم القيامة و قيل لرسول الله صلى الله عليه و سلم كم نعفو عن الخادم ؟ قال : [ في اليوم سبعين مرة ] و كان في يد النبي صلى الله عليه و سلم يوما سواك فدعا خادما له فأبطأ عليه فقال : : [ لولا القصاص لضربتك بهذا السواك ] و كان لأبي هريرة Bه جارية زنجية فرفع يوما عليها السوط فقال : لولا القصاص لأغشيتكيه و لكن سأبيعك لمن يوفيني ثمنك اذهبي فأنت حرة لوجه الله .
و جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالت يا رسول الله إني قلت لأمتي يا زانية قال : [ و هل رأيت عليها ذلك ؟ قالت : لا أما أنها ستستقيد منك يوم القيامة فرجعت إلى جاريتها فأعطتها سوطا و قالت : اجلديني فأبت الجارية فأعتقتها ثم رجعت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبرته بعتقها فقال : ( عسى ) أي عسى أن يكفر عتقك لها ما قذفتها به ] .
و في الصحيحين [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من قذف مملوكه و هو بريء مما قاله جلد يوم القيامة حدا إلا أن يكون كما قال ] و في الحديث [ للملوك طعامه و كسوته و لا يكلف ما لا يطيق ] و كان صلى الله عليه و سلم يوصيهم عند خروجه من الدنيا و يقول : [ الله الله في الصلاة و ما ملكت أيمانكم أطعموهم مما تأكلون و اكسوهم مما تكتسون و لا تكلفوهم من العمل ما لا يطيقون فإن كلفتموهم فأعينوهم و لا تعذبوا خلق الله فإنه ملككم إياهم و لو شاء لملكهم إياكم ] .
و دخل جماعة على سلمان الفارسي Bه و هو أمير على المدائن فوجدوه يعجن عجين أهله فقالوا له : ألا تترك الجارية تعجن ؟ فقال Bه : إنا أرسلناها في عمل فكرهنا أن نجمع عليها عملا آخر و قال بعض السلف : لا تضرب الملوك في كل ذنب و لكن احفظ له ذلك فإذا عصى الله فاضربه على معصية الله و ذكره الذنوب التي بينك و بينه .
( فصل ) و من أعظم الإساءة إلى الملوك و الجارية التفريق بينه و بين ولده أو بينه و بين أخيه لما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من فرق بين والدة و ولدها فرق الله بينه و بين أحبته يوم القيامة ] قال علي كرم الله وجهه : [ وهب لي رسول الله صلى الله عليه و سلم غلامين أخوين فبعث أحدهما فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : رده رده ] و من ذلك أن يجوع الملوك و الجارية و الدابة يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم [ كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته ] و من ذلك أن يضرب الدابة ضربا وجيعا أو يحبسها و لا يقوم بكفايتها أو يحملها فوق طاقتها فقد روي في تفسير قول الله تعالى : { و ما من دابة في الأرض و لا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم } الآية قيل : يؤتى بهم و الناس وقوف يوم القيامة فيقضي بينهم حتى أنه ليؤخذ للشاة الجلحاء من الشاة القرناء حتى يقاد للذرة من الذرة ثم يقال لهم : كونوا ترابا فهنالك يقول الكافر : يا ليتني كنت ترابا و هذا من الدليل على القضاء بين البهائم و بينها و بين بني آدم حتى إن الإنسان لو ضرب دابة بغير حق أو جوعها أو عطشها أو كلفها فوق طاقتها فإنها تقتص منه يوم القيامة بقدر ما ظلمها أو جوعها و الدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين [ عن أبي هريرة Bه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : عذبت امرأة في هرة ربطتها حتى ماتت جوعا لا هي أطعمتها و سقتها إذ حبستها و لا تركتها تأكل من خشاش الأرض ] أي من حشراتها .
و في الصحيح [ أنه صلى الله عليه و سلم رأى امرأة معلقة في النار و الهرة تخدشها في وجهها و صدرها و هي تعذبها كما عذبتها في الدنيا بالحبس و الجوع و هذا عام في سائر الحيوان و كذلك إذا حملها فوق طاقتها تقتص منه يوم القيامة لما ثبت في الصحيحين ] أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ بينما رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها فقالت : إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث ] فهذه بقرة أنطقها الله في الدنيا تدافع عن نفسها بأنها لا تؤذى و لا تستعمل في غير ما خلقت له فمن كلفها غير طاقتها أو ضربها بغير حق فيوم القيامة تقتص منه بقدر ضربه و تعذيبه .
قال أبو سليمان الداراني : ركبت مرة حمارا فضربته مرتين أو ثلاثا فرفع رأسه و نظر إلي و قال يا أبا سليمان هو القصاص يوم القيامة فإن شئت فأقلل و إن شئت فأكثر : قال : فقلت لا أضرب شيئا بعده أبدا .
و مر ابن عمر بصبيان من قريش قد نصبوا طيرا و هم يرمونه و قد جعلوا لصاحبه كل خاطئة من نبلهم فلما رأوا ابن عمر تفرقوا فقال من فعل هذا ؟ [ لعن الله من فعل هذا إن رسول الله صلى الله عليه و سلم لعن من اتخذ فيه الروح غرضا و الغرض كالهدف و ما يرمى إليه ] و نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أن تصبر البهائم يعني أن تحبس للقتل ] و إن كان مما أذن الشرع بقتله كالحية و العقرب و الفأرة و الكلب العقور قتله بأول دفعة و لا يعذبه لقوله عليه الصلاة و السلام [ إذا قتلتم فأحسنوا القتلة و إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة و ليحد أحدكم شفرته و ليرح ذبيحته ] .
و كذلك لا يحرقه بالنار لما ثبت في الحديث الصحيح [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا و فلانا بالنار و إن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما ] .
قال ابن مسعود : [ كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفره فانطلق لحاجته فرأينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة فجعلت ترفرف فجاء النبي صلى الله عليه و سلم و قال : من فجع هذه بولدها ؟ ردوا عليها ولديها ] و رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم قرية نمل ـ أي مكان نمل ـ قد أحرقناها فقال : [ من حرق هذه ؟ قلنا : نحن فقال عليه الصلاة و السلام : إنه لا ينبغي لأحد أن يعذب بالنار إلا ربها ] و فيه من النهي عن القتل و التعذيب بالنار حتى في القملة و البرغوث و غيرهما .
فصل : و يكره قتل الحيوان عبثا لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من قتل عصفورا عبثا عج إلى الله يوم القيامة و قال : يا رب سل هذا لم قتلني عبثا و لم يقتلني لمنفعة ؟ ] .
و يكره صيد الطير أيام فراخه لما روي ذلك في الأثر و يكره ذبح الحيوان بين يدي أمه لما روي عن إبراهيم بن أدهم C قال : ذبح رجل عجلا بين يدي أمه فأيبس الله يده .
فصل : في فضل عتق المملوك [ عن أبي هريرة Bه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو من أعضائه عضوا من أعضائه من النار حتى يعتق فرجه بفرجه ] أخرجه البخاري .
و [ عن أبي أمامة Bه عن النبي صلى الله عليه و سلم : أيما امرىء مسلم أعتق امرأ مسلما كان فكاكا له من النار يجزى كل عضو منه عضوا منه و أيما امرىء مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار يجزي كل عضوين منهما عضوا منه و أيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة إلا كانت فكاكها من النار يجزى كل عضو منها ] رواه الترمذي و صححه .
اللهم اجعلنا من حزبك المفلحين و عبادك الصالحين