قوله : 112 - { وضرب الله مثلا قرية } قد قدمنا أن ضرب مضمن معنى جعل حتى تكون { قرية } المفعول الأول و { مثلا } المفعول الثاني وإنما تأخرت { قرية } لئلا يقع الفصل بينهما وبين صفاتها وقدمنا أيضا أنه يجوز أن يكون ضرب على بابه غير مضمن ويكون { مثلا } مفعوله الأول { قرية } بدلا منه وقد اختلف المفسرون هل المراد بهذه القرية قرية معينة أو المراد قرية غير معينة بل كل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة ؟ فذهب الأكثر إلى الأول وصرحوا بأنها مكة وذلك لما دعا عليهم رسول الله A وقال : [ اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف ] فابتلوا بالقحط حتى أكلوا العظام والثاني أرجح لأن تنكير قرية يفيد ذلك ومكة تدخل في هذا العموم البدلي دخولا أوليا وأيضا يكون الوعيد أبلغ والمثل أكمل وغير مكة مثلها وعلى فرض إرادتها ففي المثل إنذار لغيرها من مثل عاقبتها ثم وصف القرية بأنها { كانت آمنة } غير خائفة { مطمئنة } غير منزعجة أي لا يخاف أهلها ولا ينزعجون { يأتيها رزقها } أي ما يرتزق به أهلها { رغدا } واسعا { من كل مكان } من الأمكنة التي يجلب ما فيها إليها { فكفرت } أي كفر أهلها { بأنعم الله } التي أنعم بها عليهم والأنعم جمع نعمة كالأشد جمع شدة وقيل جمع نعمى مثل بؤسى وأبؤس وهذا الكفر منهم هو كفرهم بالله سبحانه وتكذيب رسله { فأذاقها الله } أي أذاق أهلها { لباس الجوع والخوف } سمي ذلك لباسا لأنه يظهر به عليهم من الهزال وشحوبة اللون وسوء الحال ما هو كاللباس فاستعير له إسمه وأوقع عليه الإذاقة وأصلها الذوق بالفم ثم استعيرت لمطلق الاتصال مع إنبائها بشدة الإصابة لما فيها من اجتماع الإدراكين : إدراك اللمس والذوق روي أن ابن الراوندي الزنديق قال لابن الأعرابي إمام اللغة والأدب : هل يذاق اللباس ؟ فقال له ابن الأعرابي : لا بأس أيها النسناس هب أن محمدا ما كان نبيا أما كان عربيا ؟ كأنه طعن في الآية بأن المناسب أن يقال : فكساها الله لباس الجوع أو فأذاقها الله طعم الجوع فرد عليه ابن الأعرابي وقد أجاب علماء البيان أن هذا من تجريد الاستعارة وذلك أنه استعار اللباس لما غشي الإنسان من بعض الحوادث كالجوع والخوف لاشتماله عليه اشتمال اللباس على اللابس ثم ذكر الوصف ملائما للمستعار له وهو الجوع والخوف لأن إطلاق الذوق على إدراك الجوع والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة فيقولون ذاق فلان البؤس والضر وأذاقه غيره فكانت الاستعارة مجردة ولو قال فكساها كانت مرشحة قيل وترشيح الاستعارة وإن كان مستحسنا من جهة المبالغة إلا أن للتجريد ترجيحا من حيث إنه روعي جانب المستعار له فازداد الكلام وضوحا : وقيل إن أصل الذوق بالفم ثم قد يستعار فيوضع موضع التعرف والاختبار ومن ذلك قول الشاعر : .
( ومن يذق الدنيا فإني طعمتها ... وسيق إلينا عذبها وعذابها ) .
وقرأ حفص بن غياث ونصر بن عاصم وابن أبي إسحاق وأبو عمرو فيما روى عنه عبد الوارث بنصب الخوف عطفا على لباس وقرأ الباقون بالضم عطفا على الجوع قال الفراء : كل الصفات أجريت على القرية إلا قوله : { يصنعون } تنبيها على أن المراد في الحقيقة أهلها