49 - ـ فصل : أدعياء العلم .
عجبت من أقوام يدعون العلم و يميلون إلى التشبيه بحملهم الأحاديث على ظواهرها فلو أنهم أمروها كما جاءت سلموا لأن من أمر ما جاء و مر من غير اعتراض [ و لا تعرض ] ؟ فما قال شيئا لا له و لا عليه .
و لكن أقواما قصرت علومهم فرأت أن حمل الكلام على غير ظاهرة نوع تعطيل و لو فهموا سعة اللغة لم يظنوا هذا .
و ما هم إلا بمثابة قول الحجاج لكتابه و قد مدحته الخنساء فقالت : .
( إذا هبط الحجاج أرضا مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها ) .
( شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة شفاها ) .
فلما أتمت القصيدة قال لكاتبه : اقطع لسانها فجاء ذلك الكاتب المغفل بالموس .
قالت له : و يلك إنما قال : أجزي لها العطاء .
ثم ذهبت إلى الحجاج فقالت : كاد و الله يقطع مقولي .
فكذلك الظاهرية الذين لم يسلموا بالتسليم فإنه من قرأ الآيات و الأحاديث و لم يزد ألمه و هذه طريقة السلف .
فأما من قال : الحديث يقتضي كذا و يحمل على كذا مثل أن يقول : استوى على العرش بذاته ينزل إلى السماء الدنيا بذاته فهذه زيادة فهمها قائلة من الحس لا من النقل .
و لقد عجبت لرجل أندلس يقال له ابن عبد البر صنف كتاب التمهيد فذكر فيه حديث النزول إلى السماء الدنيا فقال : هذا يدل على أن الله تعالى على العرش لأنه لو لا ذلك لما كان لقوله ينزل معنى .
و هذا كلام جاهل بمعرفة الله D لأن هذا استسلف من حسه ما يعرفه من نزول الجسام فقاس صفة الحق عليه .
فأين هؤلاء و اتباع الأثر ؟ .
و لقد تكلموا بأقبح ما يتكلم به المتأولون ثم عابوا المتكلمين .
و اعلم أيها الطالب للرشاد أنه سبق إلينا من العقل و النقل أصلان راسخان عليهما مر الأحاديث كلها .
أما النقل فقوله سبحانه و تعالى : { ليس كمثله شيء } و من فهم هذا لم يحمل وصفا له على ما يوجبه الحس .
و أما العقل فإنه قد علم مباينه الصانع للمصنوعات و استدل على حدوثها بتغيرها و دخول الإنفعال عليها فثبت له قدم الصانع .
واعجبا كل العجب من راد لم يفهم طبيعة الكلام .
أليس في الحديث الصحيح أن الموت يذبح بين الجنة و النار ؟ .
أو ليس العقل إذا استغنى في هذا صرف الأمر عن حقيقته ؟ .
لما ثبت عند من يفهم ما هية الموت .
فقال : الموت عرض يوجب بطلان الحياة فكيف يمات الموت ؟ .
فإذا قيل له : فما تصنع بالحديث ؟ .
قال : هذا ضرب مثلا بإقامة صورة ليعلم بتلك الصورة الحسية فوات ذلك المعنى .
قلنا له : فقد روى في الصحيح : [ تأتي البقرة و آل عمران كأنهما غمامتان ] .
فقال : الكلام لايكون غمامة و لا يتشبه بها .
قلنا له أفتعطل النقل ؟ قال : لا و لكن يأتي ثوابهما .
قلنا فما الدليل الصارف لك عن هذه الحقائق ؟ .
فقال : علمي بأن الكلام لا يتشبه بالأجسام و الموت لا يذبح ذبح الأنعام و لقد علمتم سعة لغة العرب .
ما ضاقت أعطانكم من سماع مثل هذا .
فقال العلماء : صدقت هكذا نقول في تفسير مجيء البقرة و في ذبح الموت .
فقال واعجبا لكم صرفتم عن الموت و الكلام ما لا يليق بهما حفظا لما علمتم من حقائقهما فكيف لم تصرفوا عن الإله القديم ما يوجب التشبيه له بخلقه بما قددل الدليل على تنزيهه عنه ؟ .
فما زال يجادل الخصوم بهذه الأدلة و يقول : لا أقطع حتى أقطع فما قطع حتى قطع