36 - ـ فصل : حقيقة الذهد .
بلغني عن بعض زهاد زماننا أنه قدم إليه طعام فقال : لا آكل فقيل له : لم ؟ قال : لأن نفسي تشتهيه و أنا منذ سنين ما بلغت نفسي ما تشتهي .
فقلت : لقد خفيت طريق الصواب عن هذا من وجهين و سبب خفائها عدم العلم .
أما الوجه الأول : فإن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن على هذا و لا أصحابه و قد كان عليه الصلاة و السلام يأكل لحم الدجاج و يحب الحلوى و العسل .
و دخل فرقد السبخي على الحسن و هو يأكل الفالوذج فقال : [ يا فرقد ما تقول في هذا ] ؟ فقال [ لا آكله و لا أحب من أكله ] فقال الحسن : [ لعاب النحل بلباب البر مع سمن البقر هل يعيبه مسلم ؟ ] .
و جاء رجل إلى الحسن فقال : [ إن لي جارا لا يأكل الفالوذج ] فقال [ و لم ؟ ] قال يقول : [ لا أؤدي شكري ] فقال [ إن جارك جاهل و هل شكر الماء البارد ؟ ] .
و كان سفيان الثوري يحمل في سفره الفالوذج و الحمل المشوي و يقول : [ إن الدابة إذا أحسن إليها عملت ] .
و ما حدث في الزهاد بهدهم من هذا الفن فأمور مسروقة من الرهبانية و أنا خائف من قوله تعالى : { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم و لا تعتدوا } .
و لا نحفظ عن أحمد من السلف الأول من الصحابة من هذا الفن شيء أن يكون ذلك لعارض .
و سبب ما يروى عن ابن عمر Bهما : أنه اشتهى شيئا فآثر به فقيرا و أعتق جاريته رميثة و قال : [ إنها أحب الخلق إلي ] فهذا و أمثاله حسن لأنه إيثار بما هو أجود عند النفس من غيره و أكثر لها من سواه .
فإذا وقع في بعض الأوقات كسرت الفعل سورة هواها أن تطغى بنيل كل ما تريد .
فأما من دام على مخالفتها على الإطلاق فإنه يعمي قلبها و يبلد خواطرها و يشتت عزائمها فيؤذيها أكثر مما ينفعها .
و قد قال إبراهيم بن أدهم : إن القلب إذا أكره عمى و تحت مقالته سر لطيف و هو أن الله D قد وضع طبيعة الآدمي على معنى عجيب و هو أنها تختار الشيء من الشهوات مما يصلحها فتعلم باختيارها له صلاحه و صلاحها به .
و قد قال حكماء الطب : ينبغي أن يفسح للنفس فيما تشتهي من المطاعم و إن كان فيه نوع ضرر لأنها إنما تختار ما يلائمها فإذا قمعها الزاهد في مثل هذا عاد على بدنه بالضرر .
و لولا جواذب الباطن من الطبيعة ما بقي البدن فإن الشهوة للطعام تثور فإذا وقعت الغنية بما يتناول كفت الشهوة .
فاشهوة مريد و رائد و نعم الباعث هي على مصلحة البدن .
غير أنها إذا أفرطت وقع الأذى و متى منعت ما تريد على الإطلاق مع الأمن من فساد العاقبة عاد ذلك على النفس بالفساد و وهن الجسم و اختلاف السقم الذي تتداعى به الجملة مثل أن يمنعها الماء عند اشتداد العطش و الغذاء عند الجوع و الجماع عند قوة الشهوة و النوم عند غلبته حتى إن المغتم إذا لم يتروح بالشكوى قتله الكمد .
قهذا أصل إذا فهمه هذا الزاهد علم أنه قد خالف طريق الرسول صلى الله عليه و سلم و أصحابه من حيث النقل و خالف الموضوع من حيث الحكمة .
و لا يلزم على هذا قول القائل : فمن أين يصفو المطعم ؟ لأنه إذا لم يصف كان الترك ورعا و إنما الكلام في المطعم الذي ليس فيه ما يؤذي في باب الورع و كان ما شرحته جوابا للقائل : ما أبلغ نفسي شهوة على الإطلاق .
و الوجه الثاني : أني أخاف على الزاهد أن تكون شهوته انقلبت إلى الترك فصار يشتهي ألا يتناول و للنفس في هذا مكر خفي و رياء دقيق فإن سلمت من الرياء للخلق كانت الآفة من جهة تعلقها بمثل هذا الفعل و إدلاها في الباطن به فهذه مخاطرة و غلط .
و ربما قال بعض الجهال : هذا صد عن الخير و عن الزهد و ليس كذلك فإن الحديث قد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ] .
و لا ينبغي أن يغتر بعبادة جريح و لا بتقوى ذي الحويصرة و لقد دخل المتزهدون في طرق لم يسلكها الرسول صلى الله عليه و سلم و لا أصحابه من إظهار التخشع الزائد في الحد و التنوق في تخشين الملبس و أشياء صار العوام يستحسونها .
و صارت لأقوام كالمعاش يجتنون من أرباحها : تقبيل اليد و توفير التوقير و حراسة الناموس .
و أكثرهم في خلوته على غير حالته في جلوته .
و قد كان ابن سيرين يضحك بين الناس قهقهة و إذا خلا بالليل فكأنه قتل أهل القرية .
فنسأل الله تعالى علما نافعا فهو الأصل فمتى حصل أوجب معرفة المعبود D و حرك إلى خدمته بمقتضى ما شرعه و أحبه و سلك بصاحبه طريق الإخلاص .
و أصل الأصول ـ العلم و أنفع العلوم النظر في سير الرسول صلى الله عليه و سلم و أصحابه { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده }