37 - ـ فصل : جهاد النفس .
تأملت جهاد النفس فرأيته أعظم الجهاد و رأيت خلقا من العلماء و الزهاد لا يفهمون معناه لأن فيهم من منعها حظوظها على الإطلاق و ذلك غلط من وجهين : .
أحدهما : أنه رب مانع لها شهوة أعطاها بالمنع أوفى منها .
مثل أن يمنعها مباحا فيشتهر بمنعه إياها ذلك فترضى النفس بالمنع لأنها قد استبدلت به المدح .
و أخفى من ذلك أن يرى ـ بمنعه إياها ما منع ـ أنه قد فصل سواه ممن لم يمنعها ذلك و هذه دفائن تحتاج إلى منقاش فهم يخلصها .
و الوجه الثاني أننا قد كلفنا حفظها و من أسباب حفظها ميلها إلى الأشياء التي تقيمها فلا بد من إعطائها ما يقيمها و أكثر ذلك أو كله ما تشتهيه .
و نحن كالوكلاء في حفظها لأنها ليست لنا بل هي وديعة عندنا فمنعها حقوقها على الإطلاق خطر .
ثم رب شد أوجب استرخاء و رب مضيق على نفسه فرت منه فصعب عليه تلافيها .
و إنما الجهاد لها كجهاد المريض العاقل يحملها على مكروهها في تناول ما ترجو به العافية و يذوب في المرارة قليلا من الحلاوة و يتناول من الأغذية مقدار ما يصفه الطبيب و لا تحمله شهوته على موافقة غرضها من مطعم ربما جر جوعا و من لقمة ربما حرمت لقمات .
فكذلك المؤمن العاقل لا يترك لجامها و لا يهمل مقودها ـ بل يرخى لها في وقت و الطول بيده .
فما دامت على الجادة لم يضايقها في التضييق عليها .
فإذا رآها مالت ردها باللطف فإن ونت و أبت فبالعنف .
و يحبسها في مقام المداراة كالزوجة التي مبنى عقلها على الضعف و القلة فهي تدارى عند نشوزها بالوعظ فإن لم تصلح فبالهجر فإن لم تستقم فبالضرب .
و ليس في سياط التأديب أجود من سوط عزم .
هذه مجاهده من حيث العمل فأما من حيث وعظها و تأنيبها فينبغي لمن رآها تسكن للخلق و تتعرض بالدناءة من الأخلاق أن يعرفها تعظيم خالقها لها فيقول : .
ألست التي قال فيك : خلقتك بيدي و اسجدت لك ملائكتي و ارتضاك للخلافة أرضه و راسلك و اقترض منك و اشترى .
فإن رآها تتكبر قال لها : هل أنت إلا قطرة من ماء مهين تقتلك شرقة تؤلمك بقة ؟ .
و إن رأى تقصيرها عرفها حق الموالي على العبيد .
و أن ونت في العمل حدثها بجزيل الأجر .
و إن مالت إلى الهوى خوفها عظيم الوزر ثم يحذرها عاجل العقوبة الحسية كقوله تعالى : { قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم و أبصاركم } و المعنوية كقوله تعالى : { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق } .
فهذا جهاد بالقول و ذاك جهاد بالفعل