@ 52 @ وفيهم ، ولا يبعد أن يقال : إن التفضيل في الأعمال من حيث صدورها من بني آدم ومن الملائكة ، إذ الملائكة تصدر عنهم أعمال الخير جبلة أو بدون نوازع شر ، بخلاف بني آدم ، وإن أعمال الخير تصدر عنها بمجهود مزدوج ، حيث ركبت فيهم النفس اللوامة والأمارة بالسوء . ونحو ذلك من الجانب الحيواني . .
وازدواجية المجهود ، هو أنه ينازع عوامل الشر حتى يتغلب عليها ، ويبذل الجهد في فعل الخير ، فهو يجاهد للتخليص من نوازع الشر ، هو يجاهد للقيام بفعل الخير ، وهذا مجهود يقتضي التفضيل على المجهود من جانب واحد . .
وقد جاء في السنة ما يشهد لذلك ، لما ذكر صلى الله عليه وسلم لأصحابه ( أن يأتي بعدهم من أن العامل منهم له أجر خمسين ، فقالوا : خمسين منا أو منهم يا رسول الله قال : بل خمسين منكم ، لأنكم تجدون أعواناً على الخير وهم لا يجدون ) . .
وحديث ( سبق درهم مائة ألف درهم ) وبين صلى الله عليه وسلم ، أن الدرهم سبق الأضعاف المضاعفة ، لأنه ثاني اثنين فقط ، والمائة ألف جزء من مجموع كثير . .
فالنفس التي تجود بنصف ما تملك ، ولا يتبقى لها إلا درهم ، خير بكثير ممن تنفق جزءاً ضئيلاً مما تملك ويتبقى لها المال الكثير ، فكانت عوامل التصدق ودوافعه مختلفة منزلة في النفس متضادة . فالدرهم في ذاته وماهيته من جنس الدراهم الأخرى ، لم تتفاوت الماهية ولا الجنس ، ولكن تفاوتت الدوافع والعوامل لإنفاقه ، ولعل المفاضلة المقصودة تكون من هذا القبيل أولى . واللَّه تعالى أعلم . { جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } . فيه أربع مسائل . ثلاثة مجملة جاء بيانها في القرآن . والرابعة مفصّلة ولها شواهد . .
وأما الثلاثة المجملة فأولها قوله : { جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } ، إذ الجزاء في مقابل شيء يستوجبه ، وعند ربهم تشعر بأنه تفضل منه ، وإلا لقال : جزاؤهم على ربهم . .
وقد بين ذلك صريح قوله تعالى : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً * وَكَأْساً دِهَاقاً * لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَاباً * جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً } ، فنص على أن هذا الجزاء كله من ربهم عطاء لهم من عنده .