@ 43 @ لا حجر عليهم ، كما أن المنفك لا حجر عليه ، وهو لم يقل مفكوكين ، بل قال : منفكين ، وهذا أحسن ، إلى أن قال : والمقصود أنهم لم يكونوا متروكين لا يؤمرون ولا ينهون ولا ترسل إليهم رسل . .
والمعنى : أن الله لا يخليهم ولا يتركهم ، فهو لا يفكهم حتى يبعث إليهم رسولاً ، وهذا كقوله : { أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى } ، لا يؤمر ، ولا ينهى ، أي : أيظن أن هذا يكون ؟ هذا ما لا يكون ألبتة ، بل لا بد أن يؤمر وينهى . .
وقريب من ذلك قوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِى أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ * أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ } . وهذا استفهام إنكار أي لأجل إسرافكم نترك إنزال الذكر ، ونعرض عن إرسال الرسل . .
تبين من ذلك كله أن الأصح في ( منفكين ) معنى ( متروكين ) وبه يزول الإشكال الذي أورده الفخر الرازي ، ويستقيم السياق ، ويتضح المعنى ، وباللَّه تعالى التوفيق { حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً } . أجمل البينة ثم فصلها فيما بعدها { رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً } . .
وفي هذا قيل : إن البينة هي نفس الرسول في شخصه ، لما كانوا يعرفونه قبل مجيئه ، كما في قوله : { وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ } ، وقوله : { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ } . .
فكأن وجوده صلى الله عليه وسلم بذاته بينة لهم . .
ولذا جاء في الآثار الصحيحة أنهم عرفوا يوم مولده بظهور نجم نبي الختان إلى آخر أخباره صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا ، وكذلك المشركون كانوا يعرفونه عن طريق أهل الكتاب ، وبما كان متصفًا به صلى الله عليه وسلم ، ومن جميل الصفات كما قالت له خديجة عند بدء الوحي له وفزعه منه : ( كلا واللَّه لن يخزيك اللَّه ، واللَّه إنك لتحمل الكلّ وتعين على نوائب الدهر ) إلى آخره . .
وقول عمه أبي طالب : ( واللَّه ما رأيته لعب مع الصبيان ولا علمت عليه كذبة ) إلخ . وقد لقبوه بالأمين .