@ 180 @ وأجاب الأحناف عن ذلك بعدم المعارضة بين حديث علي وحديث ابن عباس ، وفعل أبي أمامة ، وقالوا : إن قول علي لا يكون إلا عن سماع ، ولأن قوله تعالى : { فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } ليس على إطلاقه بإنفاق الأمة ، إذ لا يجوز إقامتها في البراري إجماعاً ، ولا في كل قرية عند ابن عباس ، بل يشترط ألا يظعن أهلها عنها صيفاً ولا شتاء ، فكان خصوص المكان مراداً فيها إجماعاً ، فقدر القرية من أخذ بحديث ابن عباس بأنها القرية الخاصة . وقدر الأحناف المصر وقالوا : هو أولى لنص حديث علي ( إلا في مصر جامع ) ، وقالوا إن إقامتها في قرية جواثي غاية ما فيه تسمية جواثاً قرية ، وهذه التسمية هي عرف الصدر الأول ، وهو لغة القرآن في قوله تعالى : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } أي مكة والطائف ، ومكة بلا شك مصر ، وفي الصحاح أن جواثاً حصن بالبحرين ، فهي مصر إذ الحصن لا يخلو عن حاكم عليهم وعالم ، أما صلاة أبي أمامة فلم تكن عن علم ولا تقرير من النَّبي صلى الله عليه وسلم ، ولا كانت شرعت الجمعة آنذاك ، فلا حجة فيه . والذي يقتضيه النظر بين هذه الأقوال والله تعالى أعلم : أن رأي الجمهور أرجح . ويتمشى مع قواعد مذهب أبي حنيفة في الجملة ، لأن الأحناف يتفقون مع الجمهور على تسمية المصر قرية كتسمية الطائف ومكة قرى . .
وجاء في القرآن : مكة أم القرى ، فالقرية أعم من المصر ، ومذهب أبي حنيفة تقديم العام على الخاص في كثير من الأمور ، كما في حديث ( فيما سقت السماء العشر ) ، فقدمه على حديث ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) ، ومن هذا كله يتضح أن الاستيطان مجمع عليه ، فلا تصح في غير وطن ، ولا تلزم غير مستوطن . ومن قال بغير ذلك فقد خالف الأئمة ، وشذ عن الأمة ، وليس له سلف فيما ذهب إليه ، والذي قاله الجمهور يشهد له سياق القرآن الكريم بالإيماء والإشارة ، لأننا لو أخذنا بعين الاعتبار الأمر بالسعي إلى ذكر الله وترك البيع حتى لا يشغل عنها ، ثم الانتشار في الأرض بعد قضائها ، لتحصل عندنا من مجموع ذلك كله أن هناك جماعة نوديت وكلفت باستجابة النداء والسعي ، ثم الكف عن البيع الذي يشغل عن السعي ، ومثل هذا البيع الذي يكلفون بالكف عنه والذي يخشى منه شغل الناس عن السعي إلى الجمعة لا يكون عقداً بين اثنين فقط ، ولا يكون عملاً فردياً بل يشعر بأنه عمل بين أفراد عديدين ومبايعات متعددة مما يشكل حالة السوق ، والسوق لا يكون في البوادي بل في القرى وللمستوطنين .