فصل المسألة الثانية : أن الآية التي نحن بصددها .
المسألة الثانية : أن الآية التي نحن بصددها ينظر فيها على أي معنى يطلق التحريم أما الأول فلا مدخل له ها هنا لأن التحريم تشريع كالتحليل والتشريع ليس إلا لصاحب الشرع اللهم إلا أن يدخل مبتدع رأيا كان من أهل الجاهلية أو من أهل الإسلام فهذا أمر آخر يجل السلف الصالح عن مثله فضلا عن أصحاب رسول الله A على الخصوص .
وقد وقع للمهلب في شرح البخاري ما قد يشعر بأن المراد في الآية التحريم بالمعنى الأول فقال : التحريم إنما هو لله ولرسوله فلا يحل لأحد أن يحرم شيئا وقد وبخ الله من فعل ذلك فقال : { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا } فجعل ذلك من الاعتداء وقال : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب } قال : فهذا كله حجة في أن تحريم الناس ليس بشيء .
وما قاله المهلب يرده السبب في نزول الآية وليس كما تقرر ولذلك لم يعد المحرم الحكم لغيره كما هو شأن التحريم بالمعنى الأول فصار مقصورا على المحرم دون غيره .
وأما التحريم بالمعنى الثاني فلا حرج فيه في الجملة لأن بواعث النفوس على الشيء أو صوارفها عنه لا تنضبط بقانون معلوم فقد يمتنع الإنسان من الحلال لأمر يجده في استعماله ككثير ممن يمتنع من شرب العسل لوجع يعتريه به حتى يحرمه على نفسه لا بمعنى التحريم الأول ولا الثالث بل بمعنى التوقي منه كما تتوقى سائر المؤلمات .
ويدخل ها هنا بالمعنى : .
امتناع النبي A من أكل الثوم لأنه كان يناجي الملائكة وهي تتأذى من رائحته وكذلك كل ما تكره رائحته .
ولعل هذا المحل أولى من قول من قال : إن الثوم ونحوه كانت محرمة عليه بالمعنى المختص بالشارع والمعنيان متقاربان وكلاهما غير داخل في معنى الأمر .
وأما التحريم بالمعنى الرابع فيحتمل أن يدخل في عبارة التحريم فيكون قوله تعالى : { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } قد شمل التحريم بالنذر والتحريم باليمين والدليل على ذلك ذكر الكفارة بعدها بقوله تعالى : { فكفارته إطعام عشرة مساكين } إلخ .
وما تقدم من أنه كان تحريما مجردا قبل نزول الكفارة وأن جماعة من المفسرين قالوا في قوله تعالى : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } : إن التحريم كان باليمين حين حلف النبي A أن لا يشرب العسل وسيأتي ذكر ذلك بحول الله .
فإن قيل : هل يكون [ قول الرجل لرسول الله A : إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء ] ـ الحديث ـ من قبيل التحريم الثاني لا من الثالث ـ لأن الرجل قد يحرم الشيء للضرر الحاصل به وقد تقدم آنفا أنه ليس بتحريم حقيقة فكذلك ها هنا لا يريد بالتحريم النذر بل يريد به التوقي أي إني أخاف على نفسي العنت وكان هذا المعنى ـ والله أعلم ـ هو مقصود الصحابي Bه .
فالجواب : أن من يلحقه الضرر وقت ما يتناول شيئا يمكنه أن يمسك عنه من غير تحريم والتارك لأمر لا يلزمه أن يكون محرما له فكم من رجل ترك الطعام الفلاني أو النكاح لأنه في ذلك الوقت لا يشتهيه أو لغير ذلك من الأعذار ! حتى إذا زال عذره تناول منه .
وقد : ترك A أكل الضب ولم يكن تركه موجبا لتحريمه .
والدليل على أن المراد بالتحريم الظاهر وأنه لا يصح وإن كان تقدم أن النبي A رد عليه بالآية فلو كان وجود مثل تلك الأعذار مبيحا للتحريم بالمعنى الثالث لوقع التفصيل في الآية بالنسبة إلى من حرم لعذر أو غير عذر .
وأيضا فإن الانتشار للنساء ليس بمذموم فإن النبي A قال : .
[ من استطاع منكم الباءة فليتزوج ] الحديث فإذا أحب الإنسان قضاء الشهوة تزوج فحصل له ما في الحديث زيادة إلى النسل المطلوب في الملة فكأن محرم ما يحصل به الانتشار ساع في التشبه بالرهبانية وكان ذلك منتفيا عن الإسلام كسائر ما ذكر في الآية