فصل من فصول البدع الإضافية قال الله سبحانه في شأن عيسى عليه السلام ومن اتبعه : وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة إلى آخر الآية .
قال الله سبحانه في شأن عيسى عليه السلام ومن اتبعه : { وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون } .
فخرج عبد بن حميد وإسماعيل بن إسحاق القاضي وغيرهما [ عن عبد الله بن مسعود Bه قال : قال لي رسول الله A : هل تدري أي الناس أعلم ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا في العمل وإن كان يزحف على أليتيه واختلف من كان قبلنا على اثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها فرقة آذت الملوك وقاتلتهم على دين الله ـ ودين عيسى ابن مريم عليهما السلام ـ فساحوا في الجبال وترهبوا فيها هم الذين قال الله D فيهم : { ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون } فالمؤمنين الذين آمنوا بي وصدقوا بي والفاسقون الذين كذبوا وحجدوا ] وهذا الحديث من أحاديث الكوفيين والرهبانية فيه بمعنى اعتزال الخلق في السياحة واطراح الدنيا ولذاتها من النساء وغير لك ومنه لزوم الصوامع والديارة ـ على ما كان عليه أمر النصارى قبل الإسلام ـ مع التزام العبادة وعلى هذا التفسير جماعة من المفسرين .
ويحتمل أن يكون الاستثناء في قوله تعالى : { إلا ابتغاء رضوان الله } متصلا ومنفصلا فإذا بنينا على الاتصال فكأنه يقول : ما كتبناها عليهم إلا على هذا الوجه الذي هو العمل بها ابتغاء رضوان الله فالمعنى أنها مما كتبت عليهم ـ أي مما شرعت لهم ـ لكن بشرط قصد الرضوان فما رعوها حق رعايتها بدليل أنهم تركوا رعايتها حين لم يؤمنوا برسول الله A وهو قول طائفة من المفسرين لأن قصد الرضوان إذا كان شرطا في العمل بما شرع لهم فمن حقهم أن يتبعوا ذلك القصد فإلى أين سار بهم ساروا وإنما شرع لهم على شرط أنه إذا نسخ بغيره رجعوا إلى ما أحكم وتركوا ما نسخ وهو معنى ابتغاء الرضوان على الحقيقة فإذا لم يفعلوا وأصروا على الأول كان ذلك ابتاعا للهوى لا اتباعا للمشروع واتباع المشروع هو الذي يحصل له الرضوان وقصد الرضوان بذلك .
قال تعالى : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون } فالذين أمنوا هم الذين اتبعوا الرهبانية ابتغاء رضوان الله والفاسقون هم الخارجون عن الدخول فيها بشرطها إذ لم يؤمنوا برسول الله A .
إلا أن هذا التقرير يقتضي أن المشروع لهم يسمى ابتداعا وهو خلاف ما دل عليه حد البدعة .
والجواب أنه يسمى بدعة من حيث أخلوا بشرط المشروع إذ شرط عليهم فلم يقوموا به وإذا كانت العبادة مشروطة بشرط فيعمل بها دون شرطها لم تكن عبادة على وجهها وصارت بدعة كالمخل قصدا بشرط من شروط الصلاة مثل استقبال القبلة أو الطهارة أو غيرها فحيث عرف بذلك وعلمه فلم يلتزمه ودأب على الصلاة دون شرطها فذلك العمل من قبيل البدع فيكون ترهب النصارى صحيحا قبل بعث محمد رسول الله A فلما بعث وجب الرجوع عن ذلك كله إلى ملته فالبقاء عليه مع نسخه بقاء على ما هو باطل بالشرع وهو عين البدعة .
وإذا بنينا على أن الاستثناء منقطع ـ وهو قول فريق من المفسرين ـ فالمعنى : ما كتبناها عليهم أصلا ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله فلم يعملوا بها بشرطها وهو الإيمان برسول الله A إذ بعث إلى الناس كافة وإنما سميت بدعة على هذا الوجه لأمرين : .
أحدهما : يرجع إلى أنها بدعة حقيقية ـ كما تقدم ـ لأنها داخلة تحت حد البدعة .
والثاني : يرجع إلى أنها بدعة إضافية لأن ظاهر القرآن دل على أنها لم تكن مذمومة في حقهم بإطلاق بل لأنهم أخلوا بشرطها فمن لم يخل منهم بشرطها وعمل بها قبل بعث النبي A حصل له فيها أجر حسبما دل عليه قوله : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } أي أن من عمل بها في وقتها ثم آمن بالنبي A بعد بعثه وفيناه أجره .
وإنما قلنا : إنها في هذا الوجه إضافية لأنها لو كانت حقيقية لخالفوا بها شرعهم الذي كانوا عليه لأن هذا حقيقة البدعة فلم يكن لهم بها أجر بل كانوا يستحقون العقاب لمخالفتهم لأوامر الله ونواهيه فدل على أنهم فعلوا ما كانوا جائزا لهم فعله فلا تكون بدعتهم حقيقية لكنه ينظر على أي معنى أطلق عليها لفظ البدعة وسيأتي بعد بحول الله .
وعلى كل تقدير فهذا القول لا يتعلق بهذه الأمة منه حكم لأنه نسخ في شريعتنا فلا رهبانية في الإسلام وقال النبي A : .
[ من رغب عن سنتي فليس مني ] .
على أن ابن العربي نقل في الآية أربعة أقوال : الأول ما تقدم والثاني أن الرهبانية رفض النساء وهو المنسوخ في شرعنا والثالث اتخاذ الصوامع للعزلة والرابع السياحة قال : وهو مندوب إليه في ديننا عند فساد الزمان .
وطاهره يقتضي أنها بدعة لأالذين ترهبوا قبل الإسلام إنما فعلوا ذلك فرارا منهم بدينهم وسميت بدعة والندب إليها يقتضي أن لا ابتداع فيها فكيف يجتمعان ؟ ولكن للمسألة بيان فقد يذكر بحول الله .
وقيل : إن معنى قوله تعالى : { ورهبانية ابتدعوها } إنهم تركوا الحق وأكلوا لحوم الخنازير وشربوا الخمر ولم يغتسلوا من جنابة وتركوا الختان { فما رعوها } يعني الطاعة والملة { حق رعايتها } فالهاء راجعة إلى غير مذكور وهو الملة المفهوم معناها من قوله : { وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة } لأنه يفهم منه أن ثم ملة متبعة كما دل قوله : { إذ عرض عليه بالعشي } على الشمس حتى عاد عليها الضمير في قوله : { توارت بالحجاب } وكان المعنى على هذا القول : ما كتبناها عليهم على هذا الوجه الذي فعلوه وإنما أمرناهم بالحق فالبدعة فيه إذا حقيقية لا إضافية وعلى كل تقدير فهذا الوجه هو الذي قال به أكثر العلماء فلا نظر فيه بالنسبة إلى هذه الأمة .
وخرج سعيد بن منصور و إسماعيل القاضي عن أبي أمامة الباهلي Bه أنه قال : أحدثتم قيام شهر رمضان ولم يكتب عليكم إنما كتب عليكم الصيام فدموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه فإن أناسا من يني إسرائيل ابتدعوها بدعا لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فعاتبهم الله بتركها فقال : { ورهبانية ابتدعوها } الاية .
وفي رواية : فإن أناسا من بني إسرائيل ابتدعوها بدعة ابتغاء رضوان الله فلم يرعوها حق رعايتها فعاتبهم الله بتركها وتلا هذه الآية : { ورهبانية ابتدعوها } الآية .
وهذا القول يقرب من قول بعض المفسرين في قوله ك { فما رعوها حق رعايتها } يريد أنهم قصروا فيها ولم يدوموا عليها .
قال بعض نقلة التفسير : وفي هذا التأويل لزوم الإتمام لكل من بدأ بتطوع ونقل وأن يرعوه حق رعايته .
قال ابن العربي ـ وقد زاغ عن منهج الصواب ـ من يظن أنها رهبانية كتبت عليهم بعد أن التزموها قال : وليس يخرج هذا عن مضمون الكلام ولا يعطيه أسلوبه ولا معناه ولا يكتب على أحد شيء إلا بشرع أو نذر قال : وليس في هذا اختلاف بين أهل الملل والله أعلم .
وهذا القول محتاج إلى النظر والتأمل إذا بنينا العمل على وقفه إذ أكثر العلماء على القول الأول فإن هذ الملة لا بدعة فيها ولا تحتمل القول بجواز الابتداع بحال للقطع بالدليل غذ كل بدعة ضلالة ـ حسبما تقدم ـ فالأصل أن يتبع الدليل ولا عمل على خلافه .
ومع ذلك فلا نخلي ـ بحول الله ـ قول أبي أمامة Bه من نظر صحيح على وفق الدليل الشرعي وإن كان فيه بعد بالنسبة إلى ظاهر الأمر وذلك أنه عد عمل عمر Bه في جمع الناس في المسجد على قارىء واحد في رمضان بدعة لقوله حين دخل المسجد وهم يصلون : نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل .
وقد مر أنه إنما سماها باعتبار ما وأن قيام الإمام بالناس في المسجد في رمضان سنة عمل بها صاحب السنة رسول الله A وإنما تركها خوفا من الافتراض فلما انقضى زمن الوحي زالت العلة فعاد العمل بها إلى نصابه إلا أن ذلك لم يتأت لأبي بكر Bه زمان خلافته لمعارضة ما هو أولى بالنظر فيه وكذلك صدر خلافة عمر Bه حتى تأتى النظر فوقع منه لكنه صار في ظاهر الأمر كأنه أمر لم يجر به عمل من تقدمه دائما فسماه بذلك الاسم لا أنه أمر على خلاف ما ثبت من السنة .
فكأن أبا أمامة Bه اعتبر فيه نظر ذلك العمل به فسماه إحداثا موافقة لتسمية عمر Bه ثم أمر بالمداومة عليه بناء على ما فهم من هذه الآية من أن ترك الرعاية هو ترك دوامهم على التزام عمل ليس بمكتوب بل هو مندوب فلم يوفوا بمقتضى ما التزموه لأن الأخذ في التطوعات غير اللازمة ولا السنن الراتبة يقع على وجهين : .
أحدهما : أن تؤخذ على أصلها فيما استطاع الإنسان فتارة بنشط لها وتارة لا ينشط أو يمكنه تارة بحسب العادة ولا يمكنه أخرى لمزاحمة أشغال ونحوها وما أشبه ذلك كالرجل يكون له اليوم ما يتصدق به قيتصدق ولا يكون له ذلك غدا أو يكون له إلا أنه لا ينشط للعطاء أو يرى إمساكه أصلح في عادته الجارية له أو غير ذلك من الأمور الطارئة للإنسان فهذا الوجه لا حرج على أحد ترك التطوعات كلها فيه ولا لوم عليه إذ لو كان ثم لوم أو عتب لم يكن تطوعا وهو خلاف الفرض .
والثاني : أن تأخذ مأخذ الملتزمات كالرجل يتخذ لنفسه وظيفة راتبه من عمل صالح في وقت من الأوقات كالتزام قيام حظ من الليل مثلا وصيام يوم بعينه لفضل ثبت فيه على الخصوص كعاشوراء وعرفة أو يتخذ وظيفة من ذكر الله بالغداوة والعشي وما أشبه ذلك فهذا الوجه أخذت فيه التطوعات مأخذ الواجبات من وجه أنه لما نوى الدؤوب عليها في الاستطاعة اشبهت الواجبات والسنن الراتبة كما أنه لو كان ذلك الإيجاب غير لازم بالشرع لم يصر واجبا إذ تركه أصلا لا حرج فيه في الجملة أعني ترك الالتزام ونظيره عندنا النوافل الراتبة بعد الصلوات فإنها مستحبة في الأصل ومن حيث صارت رواتب أشبهت السنن والواجبات .
وهذا المعنى هو المفهوم من قوله A في الركعتين بعد العصر حين صلاهما فسئل عنهما فقال : .
[ يا ابنة أبي أمية سألت عن الركعتين بعد العصر ؟ أتى ناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان ] لأنه سئل عن صلاته لهما بعد ما نهى عنهما فإنه A كان يصليهما بعد الظهر كالنوافل الراتبة فإما فاتتاه صلاهما بعد وقتهما كالقضاء لهما حسبما يقضى الواجب .
فصار حينئذ لهذا النوع حالة من التطوع بين حالتين إلا أنه راجع إلى خيرة المكلف بحسب ما فهمنا من الشرع وإذا كان كذلك فقد فهمنا من مقصود الشرع أيضا الأخذ بالرفق والتيسير وأن لا يلزم المكلف ما لعله يعجز عنه أو يحرج بالتزامه فإن ترك الالتزام إن لم يبلغ مبلغ القدر الذي يكره ابتداء فهو يقرب من العهد الذي يجعله الإنسان بينه وبين ربه والوفاء بالعهد مطلوب في الجملة فصار الإخلال به مكروها