وقد رأينا أن تختم الكلام في الباب بفصل جمع جملة من الاستدلالات المتقدمة .
كانت الحاجة لك فأحق من عظمناه خليفة رسول الله A قال له عمر : ويحك ! بلغني عنك أمر ساءني قال : وما هو يا أمير المؤمنين ؟ قال : أتتمجن في عبادتك ؟ قال : لا يا أمير المؤمنين لكنها عظة أعظ بها نفسي قال عمر : قلها فإن كان كلاما حسنا قلته معك وإن كان قبيحا نهيتك عنه فقال : .
( وفؤاد كلما عاتبته ... في مدى الهجران يبغي تعبي ) .
( لا أراه الدهر إلا لاهيا ... في تماديه فقد برح بي ) .
( يا قرين السوء ما هذا الصبا ... فني العمر كذا في اللعب ) .
( وشباب بان عني فمضى ... قبل أن أقضي منه أربي ) .
( ما أرجي بعده إلا الفنا ... ضيق الشيب على مطلبي ) .
( ويح نفسي لا أراها أبدا ... في جميل لا ولا في أدب ) .
( نفس لا كنت ولا كان الهوى ... راقبي المولى وخافي وارهبي ) .
قال : فقال عمر رصي الله عنه : .
( نفس لا كنت ولا كان الهوى ... راقبي المولى وخافي وارهبي ) .
ثم قال عمر : على هذا فليغن من غنى .
فتأملوا قوله : بلغني أمر ساءني مع قوله : أتتمجن في عبادتك فهو من أشد ما يكون في الإنكار حتى أعلمه أنه يردد لسانه أبيات حكمة فيها موعظة فحينئذ أقره وسلم له .
هذا وما أسبهه كان فعل القوم وهم مع ذلك لم يقتصروا في التنشيط للنفوس ولا الوعظ على مجرد الشعر بل وعظوا أنفسهم بكل موعظة ولا كانوا يستحضرون لذكر الأشعار المغنين إذ لم يكن ذلك من طلباتهم ولا كان عندهم من الغناء المستعمل في أزماننا شيء وإنما دخل في الإسلام بعدهم حين خالط العجم المسلمين .
وقد بين ذلك أبو الحسن القرافي فقال : أي الماضين من الصدر الأول حجة على من بعدهم ولم يكونوا يلحنون الأشعار ولا ينغمونها بأحسن ما يكون من النغم إلا من وجه إرسال الشعر واتصال القوافي فإن كان صوت أحدهم أشجن من صاحبه كان ذلك مردودا إلى أصل الخلقة لا يتصنعون ولا يتكلفون .
هذا ما قال فلذلك نص العلماء على كراهية ذلك المحدث وحتى سئل مالك بن أنس Bه عن الغناء الذي يستعمله أهل المدينة فقال : إنما يفعله الفساق ولكن المتقدمون أيضا يعدون الغناء جزءا من أجزاء طريقة التعبد وطلب رقة النفوس وخشوع القلوب حتى يقصدونه قصدا ويتعمدون الليالي الفاضلة فيجتمعون لأجل الذكر الجهري والشطح والرقص والتغاشي والصياح وضرب الأقدام على وزن إيقاع الكف أو الآلات وموافقة النغمات .
هل في كلام النبي صلى الله عنه وعمله المنقول في الصحاح أو عمل السلف الصالح أو أحد من العلماء اثر ؟ أو في كلام المجيب ما يصرح بكلام مثل هذا ؟ .
بل سئل عن إنشاد الأشعار بالصوامع كما يفعله المؤذنون اليوم في الدعاء بالأسحار ؟ فأجاب بأن ذلك بدعة مضافة إلى بدعة لأن الدعاء بالصوامع بدعة وإنشاد الشعر والقصائد بدعة أخرى إذ لم يكن ذلك في زمن السلف المقتدى بهم .
وأما ما ذكره المجيب في التواجد عند السماع من أنه أثر رقة النفس واضطراب القلب فإنه لم يبين ذلك الأثر ما هو كما أنه لم يبين معنى الرقة ولا عرج عليها بتفسير يرشد إلى فهم التواجد عند الصوفية وإنما في كلامه أن ثم أثرا ظاهرا يظهر على جسم المتواجد وذلك الأثر يحتاج إلى تفسير ثم التواجد يحتاج إلى شرح بحسب ما يظهر من كلامه .
والذي يظهر في التواجد ما كان يبدو على جملة من أصحاب رسول الله A وهو البكاء واقشعرار الجلد التابع للخوف الآخذ بجامع القلوب وبذلك وصف الله عباده في كلامه حين قال : { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } وقال تعالى : { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق } وقال : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا } إلى قوله : { أولئك هم المؤمنون حقا } .
وعن عبد الله بن الخير Bه قال : .
انتهيت إلى رسول الله A وهو يصلي ولجوفه أزير كأزير المرجل ( يعني من البكاء ) والأزير صوت يشبه صوت غليان القدر وعن الحسن قال : قرأ عمر بن الخطاب Bه : { إن عذاب ربك لواقع * ما له من دافع } فربى لها ربوة عيد منها عشرين يوما وعن عبيد الله بن عمر قال : صلى بنا عمر بن الخطاب Bه صلاة الفجر فافتتح سورة يوسف فقرأها حتى إذا بلغ : { وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم } بكى حتى انقطع وفي رواية لما انتهى إلى قوله : { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } بكى حتى سمع نشيجه من وراء الصفوف وعن أبي صالح قال : لما قدم أهل اليمن في زمان أبي بكر Bه سمعوا القرآن فجعلوا يبكون فقال أبو بكر : هكذا كنا حتى قست قلوبنا وعن ابن أبي ليلى أنه قرأ سورة مريم حتى انتهى إلى السجدة : { خروا سجدا وبكيا } فسجد بها فلما رفع رأسه قال : هذه السجدة قد سجدناها فأين البكاء ؟ إلى غير ذلك من الآثار الدالة على أن أثر الموعظة الذي يكون بغير تصنع إنما هو على هذه الوجوه وما أشبهها .
ومثله ما استدل به بعض الناس من قوله تعالى : { وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض } ذكره بعض المفسرين وذلك أنه لما ألقى الله الإيمان في قلوبهم حضروا عند ملكهم دقيانوس الكافر فتحركت فأرة أو هرة خاف لأجلها الملك فنظر الفتية إلى بعض ولم يتمالكوا أن قاموا مصرحين بالتوحيد معلنين بالدليل والبرهان منكرين على الملك نحلة الكفر باذلين أنفسهم في ذات الله فأوعدهم ثم أخلفهم فتواعدوا الخروج إلى الغار إلى أن كان منهم ما حكى الله تعالى في كتابه فليس في ذلك صعق ولا صياح ولا شطح ولا تغاش مستعمل ولا شيء من ذلك وهو شأن فقرائنا اليوم .
وخرج سعيد بن منصور في تفسيره عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال : قلت لجدتي أسماء : كيف كان أصحاب رسول الله A إذا قرؤوا القرآن ؟ قالت : كانوا كما نعتهم الله تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم قلت : إن ناسا ها هنا إذا سمعوا ذلك تأخذهم عليه غشية فقالت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
وخرج أبو عبيد من أحاديث أبي حازم قال : مر ابن عمر برجل من أهل العراق ساقط والناس حوله فقال : ما هذا ؟ فقالوا : إذا قرئ عليه القرآن أو سمع الله يذكر خر من خشية الله قال ابن عمر : والله إنا لنخشى الله ولا نسقط وهذا إنكار .
وقيل لعائشة Bها : إن قوما إذا سمعوا القرآن يغشى عليهم فقالت : إن القرآن أكرم من أن تنزف عنه عقول الرجال ولكنه كما قال الله تعالى : { تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } وعن أنس بن مالك Bه أنه سئل عن القوم يقرأ عليهم القرآن فيصعقون فقال : ذلك فعل الخوارج .
وخرج أبو نعيم عن جابر بن عبد الله أن ابن الزبير رضي الله تعالى عنه قال : جئت أبي فقال : اين كنت ؟ فقلت : وجدت أقواما يذكرون الله فيرعد أحدهم حتى يغشى عليه من خشية الله فقعدت معهم فقال : لا تقعد بعدها فرآني كأنه لم يأخذ ذلك في فقال : رأيت رسول الله A يتلو القرآن ورأيت أبا بكر وعمر يتلوان القرآن فلا يصيبهم هذا أفتراهم أخشع لله من أبي بكر وعمر ؟ فرأيت ذلك كذلك فتركتهم وهذا بأن ذلك كله تعمل وتكلف لا يرضى به أهل الدين .
وسئل محمد بن سيرين عن الرجل يقرأ عنده فيصعق فقال : ميعاد ما بيننا وبينه أن يجلس على حائط ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إى آخره فإن وقع فهو كما قال .
وهذا الكلام حسن في المحق والمبطل لأنه إنما كان عند الخوارج نوعا من القحة في النفوس المائلة عن الصواب وقد تغالط النفس فيه فتظنه انفعالا صحيحا وليس كذلك والدليل عليه أنه لم يظهر على أحد من الصحابة لا هو ولا ما يشبهه فإن مبناهم كان على الحق فلم يكونوا يستعملون في دين الله هذه اللعب القبيحة المسقطة للأدب والمروءة .
نعم قد لا ينكر اتفاق الغشي ونحوه أو الموت لمن سمع الموعظة بحق فضعف عن مصابرة الرقة الحاصلة بسببها فجعل اابن سيرين ذلك الضابط ميزانا للمحق والمبطل وهو ظاهر فإن القحة لا تبقى مع خوف السقوط من الحائط فقد اتفق من ذلك بعض النوادر وظهر فيها عذر التواجد .
فحكي عن أبي وائل قال : خرجنا مع عبد الله بن مسعود Bه ومعنا الربيع بن خثيمة فممرنا على حداد فقام عبد الله ينظر إلى حديده في النار فنظر الربيع إليها فتمايل ليسقط ثم إن عبد الله مضى كما هو حتى أتينا على شاطىء الفرات على أتون فلما رآه عبد الله والنار تلتهب في جوفه قرأ هذه الآية : { إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا } إلى قوله : { دعوا هنالك ثبورا } فصعق الربيع يعني غشي عليه فاحتملناه فأتينا به أهله ـ قال ـ ورابطة عبد الله إلى الظهر فلم يفق فرابطه إلى المغرب .
فأفاق ورجع عبد الله إلى أهله .
فهذه حالات طرأت لواحد من أفاضل التابعين بمحضر صحابي ولم ينكر عليه لعلمه أن ذلك خارج عن طاقته فصار بتلك الموعظة الحسنة كالمغمى عليه فلا حرج إذا .
وحكي أن شابا كان يصحب الجنيد Bه ـ وهو إمام الصوفية إذ ذاك ـ فكان الشاب إذا سمع شيئا من الذكر يزعق فقال له الجنيد يوما : إن فعلت ذلك مرة أخرى لم تصحبني فكان إذا سمع شيئا يتغير ويضبط نفسه حتى كان يقطر العرق منه بكل شعرة من بدنه قطرة فيوما من الأيام صاح صيحه تلفت نفسه فهذا الشاب قد ظهر فيه مصداق ما قاله السلف لأنه لو كانت صيحته الأولى غلبته لم يقدر على ضبط نفسه وإن كان بشدة كما لم يقدر على ضبط نفسه الربيع بن خثيمة وعليه أدبه الشيخ حين أنكر عليه ووعده بالفرقة إذ فهم منه أن تلك الزعقة من بقايا رعونة النفس فلما خرج الأمر عن كسبه ـ بدليل موته ـ كانت صيحته عفوا لا حرج عليه فيها إن شاء الله .
بخلاف هؤلاء القوم الذين لم يشموا من أوصاف الفضلاء فأخذوا بالتشبه بهم فابرز لهم هواهم التشبه بالخوارج ويا ليتهم وقفوا عند هذا الحد المذموم ولكن زادوا على ذلك الرقص والزمر والدوران والضرب على الصدور وبعضهم يضرب على رأسه وما أشبه ذلك من العمل المضحك للحمقى لكونه من أعمال الصبيان والمجانين المبكي للعقلاء رحمة لهم إذ لم يتخذ مثل هذا طريقا إلى الله وتشبها بالصالحين .
وقد صح من حديث العرياض بن سارية Bه قال : .
[ وعظنا رسول الله A موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب ] الحديث فقال الإمام الآجري العالم السني أبو بكر Bه : ميزوا هذا الكلام فإنه لم يقل : صرخنا من موعظة ولا طرقنا على رؤوسنا ولا ضربنا على صدورنا ولا زفنا ولا رقصنا كما يفعل كثير من الجهال يصرخون عند المواعظ ويزعقون وينتاشون ـ قال ـ : وهذا كله من الشيطان يلعب بهم وهذا كله بدعة وضلالة ويقال لمن فعل هذا : .
اعلم أن النبي A أصدق الناس موعظة وأنصح الناس لأمته وأرق الناس قلبأ وخير الناس من جاء بعده ـ لا يشك في ذلك عاقل ـ ما صرخوا عند موعظته ولا زعقوا ولا رقصوا ولا زفنوا ولو كان هذا صحيحا لكانوا أحق الناس به أن يفعلوه بين يدي رسول الله A ولكنه بدعة وباطل ومنكر فاعلم ذلك انتهى كلامه وهو واضح فيما نحن فيه .
ولا بد من النظر في الأمر كله الموجب للتأثر الظاهر في السلف الأولين مع هؤلاء المدعين فوجدنا الأولين يظهر عليهم ذلك الأثر بسبب ذكر الله أو بسماع آية من كتاب الله وبسبب رؤية اعتبارية ـ كما في قصة الربيع عند رؤيته للحداد والأتون وهو موقد النار ـ ولسبب قراءة في صلاة أو غيرها ولم نجد أحدا منهم ـ فيما نقل العلماء ـ يستعملون الترنم بالأشعار لترق نفوسهم فتتأثر ظواهرهم وطائفة الفقراء على الضد منهم فإنهم يستعملون القرآن والحديث والوعظ والتذكير فلا تتأثر ظواهرهم فإذا قام المزمر تسابقوا إلى حركاتهم المعروفة لهم فبالحري ألا يتأثروا على تلك الوجوه المركوهة المبتدعة لأن الحق لا ينتج إلا حقا كما أن الباطل .
لا ينتج إلا باطلا .
وعلى هذا التقرير ينبني النظر في حقيقة الرقة المذكورة وهي المحركة للظاهر وذلك أن الرقة ضد الغلط فنقول : هذا رقيق ليس بغليط ومكان رقيق إذا كان لين التراب ومثله الغليط فإذا وصف بذلك فهو راجع إلى لينه وتأثره ضد القسوة ويشعر بذلك قوله تعالى : { ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } لأن القلب الرقيق إذا أوردت عليه الموعظة خضع لها ولان وانقاد ولذلك قال تعالى : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } فإن الوجل تأثر ولين يحصل في القلب بسبب الموعظة فترى الجلد من أجل ذلك يقسعر والعين تدمع واللين إذا حل بالقلب ـ وهو باطن الإنسان ـ حل بالجلد بشهادة الله ـ وهو ظاهر الإنسان ـ فقد حل الانفعال بمجموع الإنسان الأولين ـ كما تقدم ـ فإذا رأيت أحدا سمع موعظة أي موعظة كانت فيظهر عليه من الأثر ما ظهر على السلف الصالح علمت أنها رقة هي أول الوجد وأنها صحيحة لا اعتراض فيها .
وإذا رأيت أحدا سمع موعظة قرآنية أو سنية أو حكمية ولم يظهر عليه من تلك الآثار شيء حتى يسمع شعرا مرقما أو غناء مطربا فتأثر فإنه لا يظهر عليه في الغالب من تلك الآثار شيء وإنما يظهر عليه انزعاج بقيام أو دوران أو شطح أو صياح أو ما يناسب الغناء لأن الرقة ضد القسوة ـ كما تقدم ـ والطرب ضد الخشوع ـ كما يقوله الصوفية ـ والطرب مناسب للحركة لأنه ثوران الطباع ولذلك اشترك فيه مع الإنسان الحيوان كالإبل والنحل ومن لا عقل له من الأطفال وغير ذلك والخشوع ضده لأنه راجع إلى السكون وقد فسر به لغة كما فسر الطرب بأنه خفة تصحب الإنسان من حزن أو سرور .
قال الشاعر : .
( طرب الواله أو كالمختبل ) .
والتطريب مد الصوت وتحسينه .
وبيانه أن الشعر المغنى به قد اشتمل على أمرين : .
أحدهما : ما فيه من الحكمة والموعظة وهذا مختص بالقلوب ففيها تعمل وبها تنفعل ومن هذه الجهة ينسب السماع إلى الأرواح .
والثاني : ما فيه من النغمات المرتبة على النسب التلحيينة وهو المؤثر في الطبائع فيهيجها إلى ما يناسبها وهي الحركات على اختلافها فكل تأثر في القلب من جهة السماع تحصل عنه آثار الكون والخضوع فهو رقة وهو التواجد الذي أشار إليه كلام المجيب - ولا شك أنه محمود - وكل تأثر يحصل عنه ضد السكون .
فهو طرب لا رقة فيه ولا تواجد ولا هو عند شيوخ الصوفية محمود لكن هؤلاء الفقراء ليس لهم من التواجد - في الغالب - إلا الثاني المذموم فهم إذا متواجدون بالنغم واللحون لا يدركون من معاني الحكمة شيئا فقد باؤوا إذا بأخسر الصفقتين نعوذ بالله .
وإنما جاءهم الغلط من جهة اختلاط المناطين عليهم ومن جهة أنهم استدلوا بغيره فقوله تعالى : { ففروا إلى الله } وقوله : { لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا } لا دليل فيه على المعنى وكذلك قوله تعالى : { إذ قاموا فقالوا ربنا } أين فيه أنهم قاموا يرقصون أو يزفنون أو يدورون على أقدامهم ؟ ونحو ذلك فهو من الاستدلال الداخل تحت هذا الجواب .
ووقع في كلام المجيب لفظ السماع غير مفسر ففهم منه المجتمع أنه الغناء الذي تستعمله شيعته وهو فهم عموم الناس لا فهم الصوفية فإنه عندهم يطلق على كل صوت أفاد حكمة يخضع لها القلب ويلين لها الجلد وهو الذي يتواجدون عنده التواجد المحمود فسماع القرآن عنهم سماع وكذلك سماع السنة وكلام الحكماء والفضلاء حتى أصوات الطير وخرير الماء وصرير الباب ومنه سماع المنظور أيضا إذا أعطى حكمة ولا يستمعون هذا الأخير إلا في الفرط وعلى غير استعداد وعلى غير وجه الالتذاذ والإطراب ولا هم ممن يدوام عليه أو يتخذه عادة لأن ذلك كله قادح في مقاصدهم التي بنوا عليها .
قال الجنيد : إذا رأيت المريد يحب السماع فاعلم أن فيه بقية من البطالة وإنما لهم من سماعة إذا اتفق وجه الحكمة إن كان فيه حكمة فاستوى عندهم النظم والنثر وإن أطلق أحد منهم السماع فمن حيث فهم الحكمة لا من حيث يلائم الطباع لأن من سمعه من حيث يستحسنه فهو متعرض للفتنة فيصير إلى ما صار إليه السماع الملذ المطرب .
ومن الدليل على أن السماع عندهم ما تقدم ما ذكر عن أبي عثمان المغربي أنه قال : من ادعى السماع ولم يسمع صوت الطير وصرير الباب وتصفيق الرياح فهو مفتر مبتدع وقال الحصري : أيش أعمل بسماع ينقطع ممن يسمع منه ؟ وينبغي أن يكون سماعك سماعا متصلا غير منقطع وعن أحمد بن سالم قال : خدمت سهل بن عبد الله التستري سنين فما رأيته تغير عند سماع شيء يسمعه من الذكر أو القرآن أو غيره فلما كان في آخر عمره قرىء بين يديه : { فاليوم لا يؤخذ منكم فدية } تغير وارتعد وكاد يسقط فلما رجع إلى حال صحوه سألته عن ذلك فقال : يا حبيبي ضعفنا وقال السلمي دخلت على أبي عثمان المغربي وواحد يستقي الماء من البئر على بكرة فقال لي : يا أبا عبد الرحمن ! تدري إيش تقول هذه البكرة ؟ فقلت : لا فقال : تقول الله .
فهذه الحكايات وأشباهها تدل على أن السماع عندهم كما تقدم وأنهم لا يؤثرون سماع الأشعار على غيرها فضلا على أن يتصنعوا فيها بالأغاني المطربة ولما طال الزمان وبعدوا عن أحوال السلف الصالح أخذ الهوى في التفريع في السماع حتى صار يستعمل منع المصنوع على قانون الألحان فتعشقت به الطباع وكثر العمل به ودام ـ وإن كان قصدهم به الراحة فقط ـ فصار قذى في طريق سلوكهم فرجعوا به القهقرى ثم طال الأمد حتى اعتقده الجهال في هذا الزمان وما قاربه أنه قربة وجزء أجزاء طريقة التصوف وهو الأدهى .
وقول المجيب : وأما من دعا طائفة إلى منزله فتجاب دعوته وله في دعوته قصده مطابق حسب ما ذكر أولا بأن من دعا قوما إلى منزله لتعلم آية أو سورة من كتاب الله أو سنة من سنن رسول الله A أو مذاكرة في علم أو في نعم الله أو مؤانسة في شعر فيه حكمة ليس فيه غناء مكروه ولا صحبه شطح ولا زفن ولا صياح وغير ذلك من المنكرات ثم ألقى إليهم من الطعام على غير وجه التكلف والمباهاة ولم يقصد بذلك بدعة ولا امتيازا لفرقة تخرج بأفعالها وأقوالها عن السنة فلا شك في استحسان ذلك لأنه داخل في حكم المأدبة المقصود بها حسن العشرة بين الجيران والإخوان والتودد بين الأصحاب وهي في حكم الاستحباب فإن كان فيها تذاكر في علم أو نحوه فهي من باب التعاون على الخير .
ومثال ما يحكى عن محمد بن حنيف قال : دخلت يوما على القاضي علي بن أحمد فقال لي : يا أبا عبد الله ! قلت : لبيك أيها القاضي قال : ها هنا أحكي لكم حكاية تحتاج أن تكتبها بماء الذهب فقلت : أيها القاضي ! ما الذهب فلا أجده ولكني أكتبها بالحبر الجيد فقال : بلغني أنه قيل أبي عبد الله أحمد بن حنبل : أن الحارث المحاسبي يتكلم في علوم الصوفية ويحتج عليه بالآي فقال أحمد : أحب أن أسمع كلامه من حيث لا يعلم فقال أنا أجمعك معه فاتخذ دعوة ودعا الحارث وأصحابه ودعا أحمد فجلس بحيث يرى الحارث فحضرت الصلاة فتقدم وصلى بهم المغرب وأحضر الطعام فجعل يأكل ويتحدث معهم فقال أحمد : هذا منالسنة .
فلما فرغوا من الطعام وغسلوا أيديهم جلس الحارث وجلس أصحابه فقال : من أراد منكم أن يسأل شيئا فليسأل فسئل عن الإخلاص وعن الرياء ومسائل كثيرة فاستشهد بالآي والحديث أحمد يسمع لا ينكر شيئا من ذلك فلما مضى هدي من الليل أمر الحارث قارئا يقرأ شيئا من القرآن على الحدو فقرأ فبكى بعضهم وانتخب آخرون ثم سكت القارىء فدعا الحارث بدعوات خفاف ثم قام إلى الصلاة فلما أصبحوا قال أحمد : قد كان بلغني أن ها هنا مجالس للذكر يجتمعون عليها فإن كان هذا من تلك المجالس فلا أنكر منها شيئا .
ففي هذه الحكاية أن أحوال الصوفية توزن بميزان الشرع وأن مجالس الذكر ليست ما زعم هؤلاء بل ما تقدم لنا ذكره وأما ما سوى ذلك مما اعتادوه فهو مما ينكر .
والحارث المحاسبي من كبار الصوفية المقتدى بهم فإذا ليس في كلام المجيب ما يتعلق به هؤلاء المتأخرون إذ باينوا المتقدمين من كل وجه وبالله التوفيق .
والأمثلة في الباب كثيرة لو تتبعت لخرجنا عن المقصود وإنما ذكرنا أمثلة تبين من استلالاتهم الواهية ما يضاهيها وحاصلها الخروج في الاستدلال عن الطريق الذي أوضحه العلماء وبينه الأئمة وحصر أنواعه الراسخون في العلم .
ومن نظر إلى طريق أهل البدع في الاستدلالات عرف أنها لا تنضبط لأنها سيالة لا تقف عند حد وعلى كل وجه يصح لكل زائغ وكافر أن يستدل على زيغه وكفره حتى ينسب النحلة التي التزمها إلى الشريعة .
فقد رأينا وسمعنا عن بعض الكفار أنه استدل على كفره بآيات القرآن كما استدل بعض النصارى على تشريك عيسى بقوله تعالى : { وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } واستدل على أن الكفار من أهل الجنة بإطلاق قوله تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر } واستدل بعض اليهود على تفضيلهم علينا بقوله سبحانه : { اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين } وبعض الحلولية استدل على قوله تعالى : { ونفخت فيه من روحي } والتناسخي استدل بقوله : { في أي صورة ما شاء ركبك } .
وكذلك كل من اتبع المتشابهات أو حرف المناطات أو حمل الآيات ما لا تحمله عند السلف الصالح أو تمسك بالأحاديث الواهية أو اخذ الأدلة ببادي الرأي له أن يستدل على كل فعل أو قول أو اعتقاد وافق غرضه بآية أو حديث لا يفوز بذلك أصلا والدليل عليه استدلال كل فرقة شهرت بالبدعة على بدعتها يآية أو حديث من غير توقف ـ حسبما تقدم ذكره ـ وسيأتي له نظائر أيضا إن شاء الله .
فمن طلب خلاص نفسه تثبت حتى يتضح له الطريق ومن تساهل رمته أيدي الهوى في معاطب لا مخلص له منها إلا ما شاء الله