فصل وقد رأينا أن تختم الكلام في الباب بفصل جمع جملة من الاستدلالات المتقدمة .
وقد رأينا أن تختم الكلام في الباب بفصل جمع جملة من الاستدلالات المتقدمة وغيرها في معناها وفيه من نكت هذا الكتاب جملة أخرى فهو مما يحتاج إليه بحسب الوقت والحال وإن كان فيه طول ولكنه يخدم ما نحن فيه إن شاء الله تعالى .
وذلك أنه وقع السؤال عن قوم يتسمون بالفقراء يزعمون أنهم سلكوا طريق الصوفية فيجتمعون في بعض الليالي ويأخذون في الذكر الجهوري على صوت واحد ثم في الغناء والرقص إلى آخر الليل ويحضر معهم بعض المتسمين بالفقهاء ـ يترسمون برسم الشيوخ الهداة إلى سلوك ذلك الطريق : هل هذا العمل صحيح في الشرع أم لآ ؟ .
فوقع الجواب بأن ذلك كله من البدع المحدثات المخالفة طريقة رسول الله A وطريقة أصحابه والتابعين لهم بإحسان فنفع بذلك ن شاء من خلقه .
ثم إن الجواب وصل إلى بعض البلطان فقامت على العاملين بتلك البدع وخافوا اندراس طريقتهم وانقطاع اكلهم بها فأرادوا الانتصار لأنفسهم بعد أن راموا ذلك بالانتساب بالسنة إلى شيوخ الصوفية الذين ثبتت فضيلتهم واشتهرت في الانقطاع إلى الله والعمل بالسنة طريقتهم فلم يستقر لهم الاستدلال لكونهم على ضد ما كان عليه القوم فإنهم كانوا بنوا نحلتهم على ثلاثة أصول : الاقتداء بالنبي A في الأخلاق والأفعال وأكل الحلال وإخلاص النية في جميع الأعمال وهؤلاء قد خالفوهم في هذه الأصول فلا يمكنهم الدخول تحت ترجمتهم .
وكان من قدر الله أن بعض الناس سأل بعض شيوخ الوقت في مسألة تشبه هذه لكن حسن ظاهرها بحيث يكاد باطنها يخفى على غير المتأمل فأجاب عفا الله عنه على مقتضى ظاهرها من غير تعرض إلى ما هم عليه من البدع والضلالات ولما سمع بعضهم بهذا الجواب أرسل به إلى بلدة أخرى فأتى به فرحل إلى غير بلده وشهر في شيعته أن بيده حجة لطريقتهم تقهر كل حجة وأنه طالب للمناظرة فيها فدعي لذلك فلم يقم فيه ولا قعد غير أنه قال : إن هذه حجتي وألقى بالبطاقة التي بخط المجيب وكان هو ومحبه وأشياعه يطيرون بها رحا فوصلت المسألة إلى غرناطة وطلب من الجميع النظر فيها فلم يسع أحد له قوة على النظر فيها إلا أن يظهر وجه الصواب فيها الذي يدان الله به لأنه من النصيحة التي هي الدين القويم والصراط المستقيم .
ونص خلاصة السؤال : ما يقول الشيخ فلان في جماعة من المسلمين يجتمعون في رباط على ضفة البحر في الليالي الفاضلة يقرؤون جزءا من القرآن ويستمعون من كتب الوعظ والرقائق ما أمكن في الوقت ويذكرون الله بأنواع التهليل والتسبيح والتقديس ثم يقوم من بينهم قوال يذكر شيئا في مدح النبي A ويلقي من السماع ما تتوق النفس إليه وتشتاق سماعه من صفات الصالحين وذكر آلاء الله ونعمائه ويشوقهم بذكر المنازل الحجازية والمعاهد النبوية فيتواجدون اشتياقا لذلك ثم يأكلون ما حضر من الطعام ويحمدون الله تعالى ويرددون الصلاة على النبي A ويبتهلون بالأدعية إلى اللله في صلاح أمورهم ويدعون للمسلمين ولإمامهم ويفترقون .
فهل يجوز اجتماعهم هلى ماذكر ؟ أم يمنعون وينكر عليهم ؟ ومن دعاهم من المحبين إلى منزله بقصد التبرك هل يجيبون دعوته ويجتمعون على الوجه المذكور أم لا ؟ .
فأجاب بما محصوله : مجالس تلاوة القرآن وذكر الله هي رياض الجنة ثم أتى بالشواهد على طلب ذكر الله وأما الإنشادات الشعرية فإنما الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح وفي القرآن في شعراء الإسلام : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا } وذلك أن حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعبا لما سمعوا قوله تعالى : { والشعراء يتبعهم الغاوون } بكوا عند سماعها فنزل الاستثناء وقد أنشد الشعر بين يدي رسول الله A ورقت نفسه الكريمة وذرفت عيناه لأبيات أخت النضر لما طبع عليه من الرأفة والرحمة .
وأما التواجد عند السماع فهو في الأصل رقد النفس واضطراب القلب فيتأثر الظاهر بتأثر الباطن قال الله تعالى : { الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } أي اضطربت رغبا أو رهبا وعن اضطراب القلب يحصل اضطراب الجسم قال الله تعالى : { لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا } الآية وقال : { ففروا إلى الله } فإنما التواجد رقة نفسية وهزة قلبية ونهضة روحانية وهذا هو التواجد عن وجد ولا يسمع فيه نكير من الشرع وذكر السلمي أنه كان يستدل بهذه الآية على حركة الوجد في وقت السماع وهي : { وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا } الآية وكان يقول : إن القلوب مربوطة بالملكوت حركتها أنوار الأذكار وما يرد عليها من فنون السماع .
ووراء هذا تواجد لا عن وجد فهو مناط الذم لمخالفة ما ظهر لما بطن وقد يعزب فيه الأمر عند القصد إلى استنهاض العزائم وأعمال الحركة في يقظة القلب النائم : .
[ يا أيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا ] ولكن شتان ما بينهما .
وأما من دعا طائفة إلى منزله فتجاب دعوته وله في ذلك قصده ونيته فهذا ما ظهر تقييده على مقتضى الظاهر والله يتولى السرائر وإنما الأعمال بالنيات انتهى ما قيده .
فكان مما ظهر لي في هذا الجواب : أن ما ذكره في مجالس الذكر الصحيح إذا كان على حسب ما اجتمع عليه السلف الصالح فإنهم كانوا يجتمعون لتدارس القرآن فيما بينهم حتى يتعلم بعضهم من بعض ويأخذ بعضهم من بعض فهو مجلس من مجالس الذكر التي جاء في مثلها من حديث أبي هريرة Bه عن النبي A : .
[ ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفت بهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ] وهو الذي فهمه الصحابه رضي الله تعالى عنهم من الاجتماع على تلاوة كلام الله .
وكذلك الاجتماع على الذكر فإنه اجتماع على ذكر الله ففي رواية أخرى أنه قال : .
[ لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة ] الحديث المذكور لا الاجتماع للذكر على صوت واحد وإذا اجتمع القوم على التذكير لنعم الله أو التذاكر في العلم إن كانوا علماء أو كان فيهم عالم فجلس إليه متعلمون أو اجتمعوا يذكر بعضهم بعضا بالعمل بطاعة الله والبعد عن معصيته ـ وما أشبه ذلك مما كان يعمل به رسول الله A في أصحابه وعمل به الصحابة والتابعون ـ فهذه المجالس كلها مجال ذكر وهي التي جاء فيها من الأجر ما جاء .
كما يحكى عن أبي ليلى أنه سئل عن القصص فقال : أدركت أصحاب محمد A ويحدث هذا بما سمع وهذا بما سمع ـ فأما أن يجلسوا خطيبا فلا ـ وكان كالذي نراه معمولا به في المساجد من اجتماع الطلبة على معلم يقرئهم القرآن أو علما من العلوم الشرعية أو تجتمع إليه العامة فيعلمهم أمر دينهم ويذكرهم بالله ويبين لهم سنة نبيهم ليعملوا بها ويبين لهم المحدثات التي هي ضلالة ليحذروا منها ويتجنبوا مواطنها والعمل بها .
فهذه مجالس الذكر على الحقيقة وهي التي حرمها الله أهل البدع من هؤلاء الفقراء الذين زعموا أنهم سلكوا طريق التصوف وقل ما تجد منهم من يحسن قراءة الفاتحة في الصلاة إلا على اللحن فضلا عن غيرها ولا يعرف كيف يتعبد ولا كيف يستنجي أو يتوضأ أو يغتسل من الجنابة وكيف يعلمون ذلك وهم قد حرموا مجالس الذكر التي تغشاها الرحمة وتنزل فيها السكينة وتحف بها الملائكة فبانطماس هذا النور عنهم ضلوا فاقتدوا بجهال أمثالهم وأخذوا يقرؤون الأحاديث النبوية والآيات القرآنية فينزلونها على آرائهم لا على ما قال أهل العلم فيها فخرجوا عن الصراط المستقيم إلى أن يجتمعوا ويقرأ أحدهم شيئا من القرآن يكون حسن الصوت طيب النغمة جيد التلحين تشبه قراءته الغناء المذموم ثم يقولون : تعالوا نذكر الله فيرفعون أصواتهم يمشون ذلك الذكر مداولة طائفة في جهة وطائفة في جهة أخرى على صوت واحد يشبه الغناء ويزعمون أن هذا من مجالس الذكر المندوب إليها وكذبوا : فإنه لو كان حقا لكان السلف الصالح أولى بإدراكه وفهمه والعمل به ؟ وقد قال تعالى : { ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين } والمعتدون في التفسير هم الرافعون أصواتهم بالدعاء .
[ وعن أبي موسى قال : كنا مع رسول الله A في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال النبي A : أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا تدعون سميعا قريبا وهو معكم ] وهذا الحديث من تمام تفسير الآية ولم يكونوا Bهم يكبرون على صوت واحد ولكنه نهاهم عن رفع الصوت ليكونوا ممتثلين للآية وقد جاء عن السلف أيضا النهي عن الاجتماع على الذكر والدعاء بالهيئة التي يجتمع عليها هؤلاء المبتدعون وجاء عنهم النهي عن المساجد المتخذة لذلك وهي الربط التي يسمونها بالصفة وذكر من ذلك ابن وهب وابن وضاح وغيرهما ما فيه كفاية لمن وفقه الله .
فالحاصل من هؤلاء أنهم حسنوا الظن بأنهم فيما هم عليه مصيبون وأساؤوا الظن بالسلف الصالح أهل العمل الراجح الصريح وأهل الدين الصحيح ثم لما طالبهم لسان الحال بالحجة أخذوا كلام المجيب وهم لا يعملون وقولوه ما لا يرضى به العلماء وقد بين ذلك في كلام آخر إذ سئل عن ذكر فقراء زماننا فأجاب بأن مجالس الذكر المذكورة بين الأحاديث أنها هي التي يتلى فيها القرآن والتي يتعلم فيها العلم والدين والتي تعمر بالعلم والتذكير بالآخرة والجنة والنار وكمجالس سفيان الثوري والحسن وابن سيرين وأضرابهم .
أما مجالس الذكر اللساني فقد صرح بها في حديث الملائكة السياحين لكن لم يذكر فيه جهرا بالكلمات ولا رفع أصوات وكذلك غيره لكن الأصل المشروع إعلان الفرائض وإخفاء النوافل وأتى بالآية وبقوله تعالى : { إذ نادى ربه نداء خفيا } وبحديث : .
[ أربعوا على أنفسكم ] قال : وفقراء الوقت قد تخيروا بآيات وتميزوا بأصوات هي إلى الاعتداء أقربق منها إلى الاقتداء وطريقتهم إلى اتخاذها مأكلة وصناعة أقرب منها إلى اعتدادها قربة وطاعة .
انتهى معناه على اختصار أكثر الشواهد وهي دليل على أن فتواه المحتج بها ليس معناها ما رام هؤلاء المبتدعة فإنه سئل في هذه عن فقراء الوقت فأجاب بذمهم وأن حديث النبي A لا يتناول عملهم وفي الأولى إنما سئل عن قوم يجتمعون لقراءة القرآن أو لذكر الله وهذا السؤال يصدق على قوم يجتمعون مثلا في المسجد فيذكرون الله كل واحد منهم في نفسه أو يتلو القرآن نفسه كما يصدق على مجالس المعلمين والمتعلمين وما أشبه ذلك مما تقدم التنبيه عليه فلا يسعه وغيره من العلماء إلا أن يذكر محاسن ذلك والثواب عليه فلما سئل عن أهل البدع في الذكر والتلاوة بين ما ينبغي أن يعتمد عليه الموفق ولا توفيق إلا بالله العلي العظيم .
وأما ما ذكره في الإنشادات الشعرية فجائز للإنسان أن ينشد الشعر الذي لا رفث فيه ولا يذكر بمعصية وأن يسمعه من غيره إذا أنشد على الحد الذي ينشد بين يدي رسول الله A أو عمل به الصحابة والتابعون ومن يقتدى به من العلماء وذلك أنه كان ينشد ويسمع لفوائد .
منها : المنافخة عن رسول الله A وعن الإسلام وأهله ولذلك [ كان حسان بن ثابت Bه قد نصب له منبر في المسجد ينشد عليه إذا وفدت الوفود حتى يقولوا : خطيبه أخطب من خطيبنا وشاعره أشعر من شاعرنا ويقول له A : اهجهم وجبريل معك ] وهذا من باب الجهاد في سبيل الله ليس للفقراء من فضله في غنائهم بالشعر قليل ولا كثير .
ومنها : أنهم كانوا يتعرضون لحاجاتهم ويستشفعون بتقديم الأبيات بين يدي طلباتهم كما فعل ابن زهير Bه وأخت النضر بن الحارث ومثل ما يفعل الشعراء مع الكبراء هذا لا حرج فيه ما لم يكن في الشعر ذكر ما لا يجوز ونظيره في سائر الأزمنة تقديم الشعر للخلفاء والملوك ومن أشبههم قطعا من أشعارهم بين يدي حاجاتهم كما يفعله أهل الوقت المجردون للسعاية على الناس مع القدرة على الاكتساب وفي الحديث : .
[ لا تصح الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي ] فإنهم ينشدون الأشعار التي فيها ذكر الله وذكر رسوله وكثيرا ما يكون فيها ما لا يجوز شرعا ويتمندلون بذكر الله ورسوله في الأسواق والمواضع القذرة ويجعلون ذلك آلة الأخذ ما في أيدي الناس لكن بأصوات مطربة يخاف بسببها على النساء ومن لا عقل له من الرجال .
ومنها : أنهم ربما أنشدوا الشعر في الأسفار الجهادية تنشيطا لكلال النفوس وتنبيها للرواحل أن تنهض في اثقالها وهذا حسن لكن العرب لم يكن لها من تحسين النغمات ما يجري مجرى ما الناس عليه اليوم بل كانوا ينشدون الشعر مطلقا من غير أن يتعلموا هذه الترجيعات التي حدثت بعدهم بل كانوا يرققون الصوت ويمططونه على وجه لا يليق بأمية العرب الذين لم يعرفوا صنائع الموسيقى فلم يكن فيه إلذاذ ولا إطراب يلهي وإنما كان لهم شيء من النشاط كما كان الحبشة وعبد الله بن رواحة يحدوان بين يدي رسول الله A وكما كان الأنصار يقولون عند حفر الخندق : .
( نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما حيينا أبدا ) .
فيجيبهم A بقوله : .
[ اللهم لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة ] .
ومنها : أن يتمثل الرجل بالبيت أو الأبيات من الحكمة في نفسه ليعظ نفسه أو ينشطها أو يحركها لمقتضى معنى الشعر أو يذكرها ذكرا مطلقا كما حكى أبو الحسن القرافي الصوفي عن الحسن أن قوما أتوا عمر بن الخطاب Bه فقالوا : يا أمير المؤمنين ! إن لنا إماما إذا فرغ من صلاته تغنى فقال عمر : من هو ؟ فذكر الرجل فقال : قوموا بنا إليه فإنا إن وجهنا إليه يظن أنا تجسسنا عليه أمره قال : فقام عمر مع جماعة من أصحاب النبي A حتى أتوا الرجل وهو في المسجد فلما أن نظر إلى عمر قام فاستقبله فقال : يا أمير المؤمنين ما حاجتك ؟ وما جاء بك ؟ إن كانت الحاجة لنا كنا أحق بذلك منك أن نأتيك وإن