والسادس : رأي نابتة في هذه الأزمنة أعرضوا عن النظر .
والسادس : رأي نابتة في هذه الأزمنة أعرضوا عن النظر في العلم الذي هم أرادوا الكلام فيه والعمل بحسبه ثم رجعوا إلى تقليد بعض الشيوخ الذين أخذوا عنهم في زمان الصبا الذي هو مظنة لعدم التثبت من الآخذ أو التغافل من المأخوذ عنه ثم جعلوا أولئك الشيوخ في أعلى درجات الكمال ونسبوا إليهم ما نسبوا به من خطأ أو فهموا عنهم على غير تثبت ولا سؤال عن تحقيق المسألة المروية وردوا جميع ما نقل عن الأولين مما هو الحق والصواب كمسألة الباء الواقعة في هذه الأزمنة فإن طائفة ممن تظاهر بالانتصاب للإقراء زعم أنها الرخوة التي اتفق القراء ـ وهم أهل صناعة الأداء والنحويون ايضا ـ وهم الناقلون عن العرب ـ على أنها لم تأت إلا في لغة مرذولة لا يؤخذ بها ولا يقرأ بها القرآن ولا نقلت القراءة بها عن أحد من العلماء بذلك الشأن وإنما الباء التي يقرأ بها ـ وهي الموجودة في كل لغة فصيحة ـ الباء الشديدة فأبى هؤلاء من القراءة والإقراء بها بناء على أن التي قرؤوا بها على الشيوخ الذين لقوهم هي تلك لا هذه محتجين بأنهم كانوا علماء وفضلاء فلو كانت خطأ لردوها علينا وأسقطوا النظر والبحث عن أقوال المتقدمين فيها رأسا تحسين ظن الرجال وتهمة للعلم فصارت بدعة جارية ـ أعني القراءة بالباء الرخوة ـ مصرحا بأنها الحق الصريح فتعوذ بالله من المخالفة .
ولقد لج بعضهم حين وجهوا بالنصيحة فلم يرجعوا فكان القرشي المقرىء أقرب مراما منهم حكي عن يوسف بن عبد الله بن مغيث أنه قال : أدركت بقرطبة مقرئا يعرف بالقرشي وكان لا يحسن النحو فقرأ عليه قارىء يوما : { وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد } فرد عليه القرشي تحيد بالتنوين فراجعه القارىء ـ وكان يحسن النحو ـ فلج عليه المقرىء وثبت على التنوين فانتشر الخير إلى أن بلغ يحيى بن مجاهد الألبيري الزاهد ـ وكان صديقا لهذا المقرىء ـ فنهض إليه فلما سلم عليه وسأله عن حاله قال له ابن مجاهد : إنه بعد عهدي بقراءة القرآن على مقرىء فأردت تجديد ذلك عليك فأجابه إليه فقال : أريد أن أبتدىء بالمفصل فهو الذي يتردد في الصلوات فقال المقرىء : ما شئت فقرأ عليه من أول المفصل فلما بلغ الآية المذكورة ردها عليه المقرىء بالتنوين فقال له ابن مجاهد : لا تفعل ما هي إلا غير منونة بلا شك فلج المقرىء فلما رأى ابن مجاهد تصميمه قال له : يا أخي إني لم يحملني على القراءة عليك إلا لتراجع الحق في لطف وهذه عظيمة أوقعك يها قلة علمك بالنحو فإن الأفعال لا يدخلها التنوين فتحير المقرىء إلا أنه لم يقنع بهذا فقال له ابن مجاهد : بين وبينك المصاحف فأحصر منه جملة فوجدوها مشكولة بغير تنوين فرجع المقرىء إلى الحق انتهت الحكاية ويا ليت مسألتنا مثل هذه ولكنهم عفا الله عنهم أبوا الانقياد إلى الصواب