الفصل السابع في الاستدلال .
وهو في اصطلاحهم ما ليس بنص ولا إجماع ولا قياس لا يقال هذا من تعريف بعض الأنواع ببعض وهو تعريف بالمساوي في الجلاء والخفاء بل هو تعريف للمجهول بالمعلوم لأنه قد سبق العلم بالنص والإجماع والقياس واختلفوا في أنواعه فقيل هي ثلاثة : الأول التلازم بين الحكمين من غير تعيين علة وإلا كان قياسا الثاني استصحاب الحال الثالث شرع من قبلنا قالت الحنفية ومن أنواعه نوع رابع وهو الاستحسان وقالت المالكية ومن أنواعه نوع خامس وهو المصالح المرسلة وسنفرد لكل واحد من هذه الأنواع بحثا ونلحق بها فوائد لاتصالها بها بوجه من الوجوه .
البحث الأول : في التلازم وهو أربعة أقسام لأن التلازم إنما يكون بين حكمين وكل واحد منهما إما مثبت أو منفي وحاصله إذا كان تلازم تساو فثبوت كل يستلزم ثبوت الآخر ونفيه نفيه وإن كان مطلق اللزوم فثبوت الملزوم يستلزم ثبوت اللازم من غير عكس ونفي اللازم يستلزم نفي الملزوم من غير عكس وخلاصة هذا البحث ترجع إلى الاستدلال بالأقيسة الاستثنائية والاقترانية قال الآمدي ومن أنواع الاستدلال قولهم وجد السبب والمانع أو فقد الشرط ومنها انتفاء الحكم لانتفاء مدركه ومنها الدليل المؤلف من أقوال يلزم من تسليمها لذاتها قول آخر ثم قسمه إلى الاقتراني والاسثنائي وذكر الاشكال الأربعة وشروطها وضروبها انتهى فليرجع في هذا البحث إلى ذلك الفن وإذا كان هذا لا يجري إلا فيما فيه تلازم أو تناف فالتلازم إما أن يكون طردا أو عكسا أي في الطرفين أو طردا لا عكسا أي من طرف واحد والتنافي لا بد أن يكون من الطرفين لكنه إما أن يكون طردا وعكسا أي إثباتا ونفيا وأما طردا فقط أي إثباتا وإما عكسا فقط أي نفيا : .
الأول : المتلازمان طردا وعكسا وذلك كالجسم والتأليف إذ كل جسم مؤلف وكل مؤلف جسم وهذا يجري فيه التلازم بين الثبوتين وبين النفيين كلاهما طردا وعكسا فيصدق كلما كان جسما كان مؤلفا وكلما كان مؤلفا كان جسما وكلما لم يكن مؤلفا لم يكن جسما وكلما لم يكن جسما لم يكن مؤلفا .
الثاني : المتلازمان طردا فقط كالجسم والحدوث إذ كل جسم حادث ولا ينعكس في الجوهر الفرد فهذا يجري فيه التلازم بين الثبوتين طردا فيصدق كلما كان جسما كان حادثا لا عكسا فلا يصدق كلما كان حادثا كان جسما ويجري فيه التلازم بين النفيين عكسا فيصدق كلما لم يكن حادثا لم يكن جسما لا طردا فلا يصدق كلما لم يكن جسما لم يكن حادثا .
الثالث : المتنافيان طردا وعكسا كالحدوث ووجوب البقاء فإنهما لا يجتمعان في ذات فتكون حادثة واجبة البقاء ولا يرتفعان فيكون قديما غير واجب البقاء فهذا يجري فيه التلازم بين الثبوت والنفي وبين النفي والثبوت طردا وعكسا أي من الطرفين فيصدق لو كان حادثا لم يجب بقاؤه ولو وجب بقاؤه لم يكن حادثا فلا يجب بقاؤه ولو لم يجب بقاؤه فلا يكون حادثا .
الرابع : المتنافيان طردا لا عكسا إي إثباتا لا نفيا كالتأليف والقدم إذ لا يجتمعان فلا يوجد شيء هو مؤلف وقديم لكنهما قد يرتفعان كالجزء الذي لا يتجزأ وهذا يجري فيه التلازم بين الثبوت والنفي طردا وعكسا أي من الطرفين فيصدق كلما كان جسما لم يكن قديما وكلما كان قديما كان جسما .
الخامس : المتنافيان عكسا أي نفيا كالأساس والخلل فإنهما لا يرتفعان فلا يوجد ما ليس له أساس ولا يختل وقد يجتمعان في كل ما له أساس قد يختل بوجه آخر وهذا يجري فيه تلازم النفي والإثبات طردا وعكسا فيصدق كل ما لم يكن له أساس فهو مختل وكل ما لم يكن مختلا فليس له أساس ولا يصدق كل ما كان له أساس فليس بمختل وكل ما كان مختلا فليس له أساس وما قدمنا عن الآمدي أن من أنواع الاستدلال قولهم وجد السبب الخ هو أحد الأقوال لأهل الأصول وقال بعضهم إنه ليس بدليل وإنما هو دعوى دليل فهو بمثابة قولهم وجد دليل الحكم فيوجد الحكم لا يكون دليلا ما لم يعين وإنما الدليل ما يستلزم المدلول وقال بعضهم هو دليل إذ لا معنى للدليل إلا ما يلزم من العلم بالمدلول والصواب القول الأول أنه استدلال لا دليل ولا مجرد دعوى واعلم أنه يرد على جميع أقسام التلازم من الاعتراضات السابقة جميع ما تقدم ما عدى الاعتراضات الواردة على نفس العلة .
البحث الثاني الاستصحاب : أي استصحاب الحال لأمر وجودي أو عدمي عقلي أو شرعي ومعناه أن ما ثبت في الزمن الماضي فالأصل بقاؤه في الزمن المستقبل مأخوذ من المصاحبة وهو بقاء ذلك لأمر ما لم يوجد ما يغيره فيقال الحكم الفلاني قد كان فيما مضى وكلما كان فيما مضى ولم يظن عدمه فهو مظنون البقاء قال الخوارزمي في الكافي وهو آخر مدار الفتوى فإن المفتي إذا سئل عن حادثة يطلب حكمها في الكتاب ثم في السنة ثم في الإجماع ثم في القياس فإن لم يجده فيأخد حكمها من استصحاب الحال في النفي والاثبات فإن كان التردد في زواله فالأصل بقاؤه وإن كان التردد في ثبوته فالأصل عدم ثبوته انتهى واختلفوا هل هو حجة عند عدم الدليل على أقوال الأول ؟ أنه حجة وبه قالت الحنابلة وإنما المالكية وأكثر الشافعية والظاهرية سواء كان في النفي أو الاثبات وحكاه ابن الحاجب عن الأكثرين : الثاني أنه ليس بحجة وإليه ذهب أكثر الحنفية والمتكلمين كأبي الحسين البصري قالوا لأن الثبوت في الزمان الأول يفتقر إلى الدليل فكذلك في الزمان الثاني لأنه يجوز أن يكون وأن يكون وهذا خاص عندهم بالشرعيات بخلاف الحسيات فإن الله سبحانه أجرى العادة فيها بذلك ولم يجر العادة به في الشرعيات فلا تلحق بالحسيات ومنهم من نقل عنه تخصيص النفي بالأمر الوجودي ومنهم من نقل عنه الخلاف مطلقا قال الصفي الهندي وهو يققتضي تحقق الاختلاف في الوجودي والعدمي جميعا لكنه بعيد إذ تفاريعهم تدل على أن استصحاب العدم الأصلي حجة قال الزركشي والمنقول في كتب أكثرالحنفية أنه لا يصلح حجة على الغير ولكن يصلح للرفع والدفع وقال أكثر المتأخرين منهم أنه حجة لإبقاء ما كان ولا يصلح حجة لإثبات أمر لم يكن الثالث أنه حجة على المجتهد فيما بينه وبين الله D فإنه لا يكلف إلا ما يدخل تحت مقدوره فإذا لم يجد دليلا سواه جاز له التمسك ولا يكون حجة على الخصم عند المناظرة فإن المجتهدين إذا تناظروا لم ينفع المجتهد قوله لم أجد دليلا على هذا لأن التمسك بالاستصحاب لا يكون إلا عند عدم الدليل الرابع أنه يصلح حجة للدفع وإليه ذهب أكثر الحنفية قال الكيا ويعبرون عن هذا باستصحاب الحال صالح لأبقاء ما كان على ما كان إحالة على عدم الدليل لا لإثبات أمر لم يكن وقد قدمنا أن هذا قول أكثر المتأخرين منهم الخامس أنه يجوز الترجيح به لا غير نقله الأستاذ أبو إسحاق عن الشافعي وقال إنه الذي يصح عنه لا أنه يحتج به السادس أن المستصحب إن لم يكن غرضه سوى نفي ما نفاه صح ذلك وإن كان غرضه إثبات خلاف قوله خصمه من وجه يمكن استصحاب الحال في نفي ما أثبته فلا يصح حكاه الأستاذ أبو منصور البغدادي عن بعض اصحابه الشافعي قال الزركشي لا بد من تنقيح موضع الخلاف فإن أكثر الناس يطلقه ويشتبه عليهم موضع النزاع فنقول للإستصحاب صور إحداهما استصحاب ما دل العقل والشرع على ثبوته ودوامه كالملك عند جريان القول المقتضى له وشغل الذمة عند جريان إتلاف أو التزام ودوام الحل في المنكوحة بعد تقرير النكاح فهذا لا خلاف في وجوب العمل به إلى أن يثبت معارض قال : الثانية استصحاب العدم الأصلي المعلوم بدليل العقل في الأحكام الشرعية كبراءة الذمة من التكليف حتى يدل دليل شرعي على تغيره كنفي صلاة سادسة قال القاضي أبو الطيب وهذا حجة بالإجماع من القائلين بأنه لا حكم قبل الشرع فإن الثالثة استصحاب الحكم العقلي عند المعتزلة فإن عندهم أن العقل يحكم في بعض الأشياء إلى أن يرد الدليل السمعي وهذا لا خلاف بين أهل السنة في أنه لا يجوز العمل به لأنه لا حكم للعقل في الشرعيات قال : الرابعة استصحاب الدليل مع احتمال المعارض إما تخصيصا إن كان الدليل ظاهرا أو نسخا إن كان الدليل نصا فهذا أمر معمول به إجماعا وقد اختلف في تسمية هذا النوع بالاستصحاب فأثبته جمهور الأصوليين ومنعه المحققون منهم إمام الحرمين في البرهان و الكيا في تعليقه وابن السمعاني في القواطع لأن ثبوت الحكم فيه من ناحية اللفظ لا من ناحية اللفظ لا من ناحية الإستصحاب .
قال الخامسة الحكم الثابت بالإجماع في محل النزاع وهو راجع إلى الحكم الشرعي بأن يتفق على حكم في حالة ثم يتغير صفة المجمع عليه فيختلفون فيه فيستدل من لم يغير الحكم باستصحاب الحال مثاله إذا استدل من يقول إن المتيمم إذا رأى الماء في أثناء صلاته لا تبطل صلاته لأن الإجماع منعقد على صحتها قبل ذلك فاستصحب إلى أن يدل دليل على أن رؤية الماء مبطلة وكقول الظاهرية يجوز بيع أم الولد لأن الإجماع انعقد على جواز بيع هذه الجارية قبل الاستيلاد فنحن على ذلك الإجماع بعد الاستيلاد وهذا النوع هو محل الخلاف كما قاله في القواطع وهكذا فرض أئمتنا الأصوليون الخلاف فيها فذهب الأكثرون منهم القاضي الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ والغزالي إلى أنه ليس بحجة قال الأستاذ أبو منصور وهو قول جمهور اهل الحق من الطوائف وقال المارودي والروياني في كتاب القضاء إنه قول الشافعي وجمهور العلماء فلا يجوز الاستدلال بمجرد الاستصحاب بل إن اقتضى القياس أو غيره ألحاقه بما قبل ألحق به وإلا فلا قال وذهب أبو ثور وداود الظاهري إلى الاحتجاج به ونقله ابن السمعاني عن المزني وابن سريج والصيرفي وابن خيران وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أبي الحسين بن القطان قال واختاره الآمدي وابن الحاجب قال سليم الرازي في التقريب إنه الذي ذهب إليه شيوخ اصحابنا فيستصحب حكم الإجماع حتى يدل الدليل على ارتفاعه انتهى والقول الثاني هو الراجح لأن المتمسك بالاستصحاب باق على الأصل قائم في مقام المنع فلا يجب عليه الانتقال عنه إلا بدليل يصلح لذكل فمن ادعاه جاء به .
البحث الثالث : شرع من قبلنا وفي ذلك مسألتان : .
المسألة الأولى : هل كان نبينا ضصض قبل البعثة متعبدا بشرع أم لا ؟ وقد اختلفوا في ذلك على مذاهب فقيل أنه ضصض كان متعبدا قبل البعثة بشريعة آدم لأنها أول الشرائع وقيل بشريعة نوح لقوله تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا } وقيل بشريعة إبراهيم لقوله تعالى : { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي } وقوله { أن اتبع ملة إبراهيم } قال الواحدي وهذا هو الصحيح قال ابن القشيري في المرشد وعزي إلى الشافعي قال الأستاذ أبو منصور وبه نقول وحكاه صاحب المصادر عن أكثر أصحاب أبي حنيفة وإليه أشار أبو علي الجبائي وقيل كان متعبدا بشريعة موسى وقيل بشريعة عيسى لأنه أقرب الأنبياء ولأنه الناسخ لما قبله من الشرائع وبه جزم الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائني كما حكاه عنه الواحدي وقيل كان على شرع من الشرائع ولا يقال كان من أمة نبي من الأنبياء أو على شرعه قال ابن القشيري في المرشد وإليه كان يميل الأستاذ أبو إسحاق وقيل كان متعبدا بشريعة كل من قبله من الأنبياء إلا ما نسخ منها واندرس حكاه صاحب الملخص وقيل كان متعبدا بشرع ولكن لا ندري بشرع من تعبده الله حكاه ابن القشيري وقيل لم يكن قبل البعثة متعبدا بشرع حكاه في المنخول عن إجماع المعتزلة قال القاضي في مختصر التقريب وابن القشيري هو الذي صار إليه جماهير المتكلمين قال جمهورهم إن ذلك محال عقلا إذ لو تعبد باتباع أحد لكان غضا من نبوته وقال بعضهم بل كان على شريعة العقل قال ابن القشيري وهذا باطل إذ ليس للعقل شريعة ورجح هذا المذهب أعني عدم التعبد بشرع قبل البعثة القاضي وقال هذا ما ترتضيه وتنصره لأنه كان على دين لنقل ولذكره ضصض إذ لا يظن به الكتمان وعارض ذلك إمام الحرمين وقال لو لم يكن على دين أصلا لنقل فإن ذلك أبعد عن المعتاد مما ذكره القاضي قال فقد تعارض الأمران والوجه أن يقال كانت العادة انحرفت في أمور الرسول ضصض بانصرافهم الناس عن أمر دينه والبحث عنه ولا يخفى ما في هذه المعارضة من الضعف وسقوط ما زمه عليها وقيل بالوقف وبه قال إمام الحرمين وابن القشيري والكيا والغزالي والآمدي والشريف المرتضى واختاره النووي في الروضة قالوا إذ ليس فيه دلالة عقل ولا ثبت فيه نص ولا إجماع قال ابن القشيري في المرشد بعد حكاية الاختلاف في ذلك وكل هذه أقوال متعارضة وليس دلالة قاطعة والعقل يجوز ذلك لكن أين السمع فيه انتهى قال إمام الحرمين هذه المسألة لا تظهر لها فائدة بل تجري مجرى التواريخ المنقولة ووافقه المازري والماوردي وغيرهما وهذا صحيح فإنه لا يتعلق بذلك فائدة باعتبار هذه الأمة ولكنه يعرف به في الجملة شرف تلك الملة التي تعبد بها وفضلها على غيرها من الملل المتقدمة على ملته وأقرب هذه الأقوال قول من قال إنه كان متعبدا بشريعة إبراهيم عليه السلام فقد كان ضصض كثير البحث عنها عاملا بما بلغ إليه منها كما يعرف ذلك من كتب السير وكما تفيده الآيات القرآنية من أمره ضصض بعد البعثة باتباع تلك الملة فإن ذلك يشعر بمزيد خصوصية لها فلو قدرنا أنه كان على شريعة قبل البعثة لم يكن إلا عليها .
المسألة الثانية : اختلفوا هل كان متعبدا بعد البعثة بشرع من قبله أم لا ؟ على أقوال : .
الأول : أنه لم يكن متعبدا باتباعها بل كان منهيا عنها وإليه ذهب الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في آخر قوليه واختاره الغزالي في آخر عمره قال ابن السمعاني إنه المذهب الصحيح وكذا قال الخوارزمي في الكافي واستدلوا بأنه ضصض لما بعث معاذا إلى اليمن لم يرشده إلا إلى العمل بالكتاب والسنة ثم اجتهاد الرأي وصحح هذا القول ابن حزم واستدلوا أيضا بقوله تعالى : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } وبالغت المعتزلة فقالت باستحالة ذلك عقلا وقال غيرهم العقل لا يحيله ولكنه ممتنع شرعا واختاره الفخر الرازي والآمدي .
القول الثاني : أنه كان متعبدا بشرع من قبله إلا ما نسخ منه نقله ابن السمعاني عن أكثر الشافعية وأكثر الحنفية وطائفة من المتكلمين قال ابن القشيري هو الذي صار إليه الفقهاء واختاره الرازي وقال إنه قول أصحابهم وحكاه الأستاذ أبو منصور عن محمد بن الحسن واختاره الشيخ أبو إسحاق واختاره ابن الحاجب وقال ابن السمعاني وقد أومأ إليه الشافعي في بعض كتبه قال القرطبي وذهب إليه معظم أصحابنا يعني المالكية قال القاضي عبد الوهاب إنه الذي تقتضيه أصول مالك واستدلوا بقوله سبحانه : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } الآية فإن ذلك مما استدل به في شرعنا على وجوب القصاص ولو لم يكن متعبدا بشرع من قبله لما صح الاستدلال بكون القصاص واجبا في شرع بني إسرائيل على كونه واجبا في شرعه واستدلوا أيضا بأنه ضصض لما قال من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها قرأ قوله تعالى : { وأقم الصلاة لذكري } وهي مقولة لموسى فلو لم يكن متعبدا بشرع من قبله لما كان لتولاة الآية عند ذلك فائدة واستدلوا بما ثبت عن ابن عباس أنه سجد في صورة ص وقرأ قوله تعالى : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } فاستنبط التشريع من هذه الآية واستدلوا أيضا بما ثبت في الصحيح أنه كان ضصض يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه ولولا ذلك لم يكن لمحبته للموافقة فائدة ولا أوضح ولا أصرح في الدلالة على هذا المذهب من قوله تعالى : { فبهداهم اقتده } وقوله { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا } .
القول الثالث : الوقف حكاه ابن القشيري وابن البرهان وقد فصل بعضهم تفصيلا حسنا فقال إنه إذا بلغنا شرع من قبلنا على لسان الرسول أو لسان الرسول أو لسان من أسلم كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار ولم يكن منسوخا ولا مخصوصا فإنه شرع لنا وممن ذكر هذا القرطبي ولا بد من هذا التفصيل على قول القائلين بالتعبد لما هو معلوم من وقوع التحريف والتبديل فإطلاقهم مقيد بهذا القيد ولا أظن أحدا منهم يأباه .
البحث الرابع : الاستحسان واختلف في حقيقة فقيل هو دليل ينقدح في نفس المجتهد ويعسر عليه التعبير عنه وقيل هو العدول عن قياس إلى قياس أقوى وقيل هو العدول عن الحكم إلى العادة لمصلحة الناس قيل تخصيص قياس بأقوى منه ونسب القول به إلى أبي حنيفة وحكى عن أصحابه ونسبه إمام الحرمين إلى مالك وأنكره القرطبي فقال ليس معروفا من مذهبه وكذلك أنكر اصحاب أبي حنيفة ما حكى عن الحنابلة قال ابن الحاجب في المختصر قالت به الحنفية والحنابلة وأنكره غيرهم انتهى وقد أنكره الجمهور حتى قال الشافعي من استحسن فقد شرع قال الروياني معناه أنه ينصب من جهة نفسه شرعا غير الشرع وفي رواية عن الشافعي أنه قال القول بالاستحسان باطل وقال الشافعي في الرسالة الاستحسان تلذذ ولو جاز لأحد الاستحسان في الدين لجاز ذلك لأهل العقول من غير أهل العلم ولجاز أن يشرع في الدين في كل باب وأن يخرج كل أحد لنفسه شرعا قال جماعة من المحققين الحق أنه لا يتحقق استحسان مختلف فيه لأنهم ذكروا في تفسيره أمور لا تصلح للخلاف لأن بعضها مقبول اتفاقا وبعضها متردد بين ما هو مقبول اتفاقا وما هو مردود اتفاقا وجعلوا من صور الاتفاق على القبول قول من قال إن الاستحسان العدول عن قياس إلى قياس أقوى وقول من قال إنه تخصيص قياس بأقوى منه وجعلوا من المتردد بين القبول والرد قول من قال إنه دليل ينقدح في نفس المجتهد ويصر علي التعبير عنه لأنه إن كان معنى قوله ينقدح أنه يتحقق ثبوته والعمل به واجب عليه فهو مقبول اتفاقا وإن كان بمعنى أنه شاك فهو مردود اتفاقا إذ لا يثبت الأحكام بمجرد الاحتمال والشك وجعلوا من المتردد ايضا قول من قال إنه العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس فقالوا إن كان العادة هي الثابتة في زمن النبي ضصض فقد ثبت بالسنة وإن كانت هي الثابتة في عصر الصحابة من غير إنكار فقد ثبت بالأجماع وأما غيرها فإن كان نصا وقياسا مما ثبت حجيته فقد ثبت ذلك به وإن كان شيئا آخر لم تثبت حجيته فهو مردود قطعا وقد ذكر الباجي أن الاستحسان الذي ذهب إليه أصحاب مالك هو القول بأقوى الدليلين كتخصيص بيع العرايا من بيع الرطب بالتمر قال وهذا هو الدليل فإن سموه استحسانا فلا مشاحة في التسمية وقال ابن الأنباري الذي يظهر من مذهب مالك القول بالاستحسان لا على ما سبق بل حاصله استعمال مصلحة جزئية في مقابلة قياس كلي فهو يقدم الاستدلال المرسل على القياس ومثاله لو اشترى سلعة بالخيار ثم مات وله ورثة فقيل يرد وقيل يختار الامضاء قال أشهب القياس الفسخ ولكنا نستحسن إن أراد الامضاء أن يأخذ من لم يمض إذا امتنع البائع من قبوله نصيب الراد قال ابن السمعاني إن كان الاستحسان هو القول بما يستحسنه الانسان ويشتهيه من غير دليل فهو باطل ولا أحد يقول به ثم ذكر أن الخلاف لفظي ثم قال فإن تفسير الاستحسان بما يشنع به عليهم لا يقولون به وإن تفسير الاستحسان بالعدول عن دليل إلى دليل أقوى منه فهذا مما لم ينكره أحد عليه لكن هذا الإسم لا يعرف إسما لما تقاربه وقد سبقه إلى مثل هذا القفال فقال إن كان المراد بالاستحسان ما دلت الأصول بمعانيها فهو حسن لقيام الحجة به قال فهذا لا ننكره ونقول وبه وإن كان ما يقع في الوهم من استقباح الشيء واستحسانه من غير حجة دلت عليه من أصل ونظير فهو محظور والقول به غير سائغ قال بعض المحققين الاستحسان كلمة يطلقها أهل العلم على ضربين : أحدهما واجب بالإجماع وهو أن يقدم الدليل الشرعي أو العقلي لحسنه فهذا يجب العمل به لأن الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع والضرب الثاني أن يكون على مخالفة ادليل مثل أن يكون الشيء محظورا بدليل شرعي وفي عادات الناس التحقيق فهذا عندنا يحرم القول به ويجب اتباع الدليل وترك العادة والرأي سواء كان ذلك الدليل نصا أو إجماعا أو قياسا انتهى فعرفت بمجموع ما ذكرنا أن ذكر الاستحسان في بحث مستقل لا فائدة فيه أصلا لأنه إن كان راجعا إلى الأدلة المتقدمة فهو تكرار وإن كان خارجا عنها فليس من الشرع في شيء بل هو من التقول على هذه الشريعة بما لم يكن فيها تارة وبما يضادها أخرى .
البحث الخامس : المصالح المرسلة قد قدمنا الكلام فيها في مباحث القياس وسنذكر هاهنا بعض ما يتعلق بها تتميما للفائدة ولكونها قد ذكرها جماعة من أهل الأصول في مباحث الاستدلال ولهذا سماها بعضهم بالاستدلال المرسل وأطلق إمام الحرمين وابن السمعاني عليها إسم استدلال قال الخوارزمي والمراد بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع بدفع المفاسد عن الخلق قال الغزالي هي أن يوجد معنى يشعر بالحكم مناسب عقلا ولا يوجد أصل متفق عليه وقال ابن برهان هي ما لا تستند إلى أصل كلي ولا جزئي وقد اختلفوا في القول بها على مذاهب : الأول منع التمسك بها مطلقا وإليه ذهب الجمهور الثاني الجواز مطلقا وهو المحكى عن مالك قال الجويني في البرهان وأفرط في القول بها حتى جزاه إلى استحلال القتل وأخذ المال لمصالح يقتضيها في غالب الظن وإن لم يجد لها مستندا وقد حكى القول بها ومنهم القرطبي وقال ذهب الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنيفة إلى عدم الاعتماد عليها وهو مذهب مالك قال وقد اجترأ إمام الحرمين الجويني وجازف فيما نسبه إلى مالك من الافراط في هذا الأصل وهذا الأصل وهذا لا يوجد في كتب مالك ولا في شيء من كتب أصحابه قال ابن دقيق العيد الذي لا شك فيه أن لمالك ترجيحا على غيره من الفقهاء في هذا النوع ويليه أحمد بن حنبل ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتباره في الجملة ولكن لهذين ترجيح في الاستعمال لها على غيرهما انتهى قال القرافي هي عند التحقيق في جميع المذاهب لأنهم يقومون ويقعدون بالمناسبة ولا يطلبون شاهدا بالاعتبار ولانعني بالمصلحة المرسلة إلا ذلك الثالث إن كانت ملائكة لأصل كلي من أصول الشرع أو لأصل جزئي جاز بنا الأحكام عليها ولا فلا حكاه ابن برهان في الوجيز عن الشافعي وقال إنه الحق المختار قال إمام الحرمين ذهب الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنفية إلى تعليق الأحكام بالمصالح المرسلة بشرط الملاءمة للمصالح المعتبرة المشهود لها بالأصول الرابع إن كانت تلك المصلحة ضرورية قطعية كلية كانت معتبرة فإن فقد أحد هذه الثلاثة لم تعتبر والمراد بالضرورية أن تكون من الضروريات الخمس وبالكلية أن تعم جميع المسلمين لا لو كانت لبعض الناس دون بعض أو في حالة مخصوصة دون حالة واختار وبالكلية أن تعم جميع المسلمين لا لو كانت لبعض الناس دون بعض أو في حالة مخصوصة دون حالة واختار هذا الغزالي والبيضاوي ومثل الغزالي للمصلحة المستجمعة بمسألة الترس وهي ماذا تترس الكفار بجماعة من المسلمين وإذا رمينا قتلنا مسلما من دون جريمة منه ولو تركنا الرمي لسلطنا الكفار على المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارىالذين تترسوا بهم فحفظ المسلمين بقتل من تترسوا به من المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع لأنا نقطع أن الشرع يقصد تقليل القتل كما يقصد حسمه عند الإمكان فحيث لم نقدر على الحسم فقد قدرنا على التقليل وكان هذا التفاتا إلأى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصودة للشرع لا بدليل واحد بل بأدلة خارجة على الحصر ولكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق وهو قتل من لم يذنب لم يشهد له اصل فينقدح اعتبار هذه المصلحة بالأوصاف الثلاثة وهي كونها ضرورية كلية قطعية فخرج بالكلية فإذا اشرف جماعة في سفينة على الغرق ولو غرق بعضهم لنجوا فلا يجوز تغريق البعض وبالقطعية ما إذا شككنا في كون الكفار يتسلطون عن عدم رمي الترس إذ لا ضرورة بنا إلى أخذ القعلة قال القرطبي هي بهذه القيود لا ينبغي أن يختلف في اعتبارها وأما ابن المنير فقال هو احتكام من قائلة ثم هو تصويرها بما لا يمكن عادة ولا شرعا أما عادة فلأن القطع في الحوادث المستقلة لا سبيل إليه إذ هو عبث وعناد وأما شرعا فلأن الصادق المعصوم قد أخبرنا بأن الأمة لا يتسلط عدوها عليها ليستأصل شأفتها قال وحاصل كلام الغزالي رد الاستدلال بها لتضيقه في قبولها باشتراط ما لا يتصور وجوده انتهى قال الزركشي وهذا تحامل منه فإن الفقيه يفرض المسائل النادرة لاحتمال وقوعها بل المستحيلة لرياضة الأفهام ولا حجة له في الحديثة لأن المراد به كافة الخلق وتصوير الغزالي إما هو في أهل محلة يخصوصهم استولى عليهم الكفار لا جميع العالم وهذا واضح انتهى قال ابن دقيق العيد لست أنكر على من اعتبر أصل المصالح لكن الاسترسال فيها وتحقيقها محتاج إلى نظر سديد وربما يخرج عن الحد وقد نقلوا عن عمر Bه أنه قطع لسان الحطيئة بسبب الهجو فإن صح ذلك فهو من باب العزم على المصالح المرسلة وحمله على التهديد الرادع للمصلحة أولى من حمله على حقيقة القطع للمصلحة وهذا يجر إلى النظر فيما يسمى مصلحة مرسلة قال وشاورني بعض القضاءة في قطع أنملة شاهد والغرض منعه عن الكتابة بسبب قطعها وكل هذا منكرات عظيمة الموقع في الدين واسترسال قبيح في أذى المسلمين انتهى