فوائد لها بعض اتصال بمباحث الاستدلال .
الفائدة الأولى : في قول الصحابي اعلم أنهم قد اتفقوا على أن قول الصحابي في مسائل الاجتهاد ليس بحجة على صحابي آخر وممن نقل هذا الاتفاق القاضي أبو بكر والآمدي وابن الحاجب وغيرهم واختلفوا هل يكون حجة على من بعد الصحابة من التابعين ومن بعدهم على أقوال : الأول أنه ليس بحجة مطلقا وإليه ذهب الجمهور الثاني أنه حجة شرعية مقدمة على القياس وبه قال أكثر الحنفية ونقل عن مالك وهو قول الشافعي الثالث أنه حجة إذا انضم إليه القياس فيقدم حينئذ على قياس ليس معه قول صحابي وهو ظاهر قول الشافعي في الرسالة قال وأقوال الصحابة إذا تفرقوا نصير منها إلى ما وافق الكتاب أو السنة أو الإجماع أو ما كان أصح في القياس وإذا قال واحد منهم القول لا يحفظ عن غيره منهم له فيه موافقة ولا مخالفة صرت إلى اتباع قول واحدهم إذا لم أجد كتابا ولا سنة ولا إجماعا ولا شيئا يحكم له بحكمه أو وجد معه قياس انتهى وحكى القاضي حسين وغيره من أصحاب الشافعي عنه أنه يرى في الجديد أن قول الصحابي حجة إذا عضده القياس وكذا حكاه عنه القفال الشاشي وابن القطان قال القاضي في التقريب إنه قاله الشافعي في الجديد واستقر عليه مذهبه وحكاه عنه المزني وابن أبي هريرة الرابع أنه حجة إذا خالف القياس لأنه لا محمل له إلا التوقيف وذلك القياس والتحكم في دين الله باطل فيعلم أنه لا يقلد إلا توقيفا قال ابن برهان في الوجيز وهذا هو الحق المبين قال : ومسائل الإمامين أبي حنيفة والشافعي رحمهما الله تدل عليه انتهى ولا يخفاك أن الكلام في قول الصحابي إذا كان ما قاله من مسائل الاجتهاد أما إذا لم يكن منها ودل دليل على التوقيف فليس مما نحن بصدده والحق أنه ليس بحجة فإن الله سبحانه لم يبعث إلى هذه الأمة إلا نبينا محمدا ضصض وليس لنا إلا رسول واحد وكتاب واحد وجميع الأمة مأمور باتياع كتابة وسنة نبيه ولا فرق بين الصحابة ومن بعدهم في ذلك فكلهم مكلفون بالتكاليف الشرعية وباتباع الكتاب والسنة فمن قال إنها تقوم الحجة في دين الله D بغير كتاب الله وسنة رسوله وما يرجع إليهما قد قال في دين الله لا يثبت وأثبت في هذه الشريعة الإسلامية شرعا لم يأمر الله وهذا أمر عظيم وتقول بالغ فإن الحكم لفرد أو أفراد من عباد الله بأن قوله أو اقوالهم حجة على المسلمين يجب عليهم العمل به وتصير شرعا ثابتا متقررا تعم به البلوى مما لا يدان الله عز وزجل به ولا يحل لمسلم الركون إليه ولا العمل عليه فإن هذا المقام لم يكن إلا لرسل الله الذين أرسلهم بالشرائع إلى عباده لا لغيرهم وإن بلغ في العلم والدين وعظم المنزلة أي مبلغ ولا شك أن مقام الصحبة مقام عظيم ولكن ذلك في الفضيلة وارتفاع الدرجة وعظمة الشأن وهذا مسلم لا شك فيه ولهذا مد أحدهم لا يبلغه من غيرهم الصدقة بأمثاله الجبال ولا تلازم بين هذا وبين جعل كل واحد منهم بمنزلة رسول الله ضصض في حجة قوله وإلزام الناس باتباعه فإن ذلك مما لم يأذن الله به ولا ثبت عنه فيه حرف واحد وأما ما تمسك به بعض القائلين بحجية قول الصحابي مما روى عنه ضصض أنه قال [ أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ] فهذا مما لم يثبت قط والكلام فيه معروف عند أهل هذا الشأن بحيث لا يصح العمل بمثله في أدنى حكم من أحكام الشرع فكيف مثل هذا الأمر العظيم والخطب الجليل على أنه لو ثبت من وجه صحيح لكان معناه أن مزيد عملهم بهذه الشريعة المطهرة الثابتة من الكتابة والسنة وحرصهم على اتباعها ومشيهم على طريقتها يقتضي أن اقتداء الغير بهم في العمل بها واتباعها هداية كاملة لأنه لو قيل لأحدهم لم قلت كذا لم فعلت كذا لم يعجز من إبراز الحجة من الكتاب والسنة ولم يتلعثم في بيان ذلك وعلى مثل هذا الحمل يحمل ما صح عنه ضصض من قوله [ اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ] وما صح عنه من قوله ضصض [ عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين ] فاعرف هذا واحرص عليه فإن الله لم يجعل إليك وإلى سائر هذه الأمة رسولا إلا محمدا ضصض ولم يأمرك باتباع غيره ولا شرع لك على لسان سواه من أمته حرفا واحدا ولا جعل شيئا منه الحجة عليك في قول غيره كائنا من كان .
الفائدة الثانية : الأخذ بأقل ما قيل فإنه أثبته الشافعي والقاضي أبو بكر الباقلاني قال القاضي عبد الوهاب وحكى بعض الأصوليين إجماع أهل النظر عليه قال ابن السمعاني وحقيقته أن يختلف المختلفون في أمر على أقاويل فيأخذ بأقلها إذا لم يدل على الزيادة دليل قال القفال الشاشي هو أن يرد الفعل عن النبي ضصض مبينا لمجمل ويحتاج إلى تجديده فيصار إلى ما يوجد كما قال الشافعي في أقل الجزية إنه دينار وقال ابن القطان هو أن يختلف الصحابي في تقديره فيذهب بعضهم إلى مائة مثلا وبعضهم إلى خمسين فإن كان ثم دلالة تعضد أحد القولين صير إليها وإن لم يكن دلالة فقد اختلف فيه أصحابنا فمنهم من قال يأخذ بأقل ما قيل ويقول إن هذا مذهب الشافعي لأنه قال أن دية اليهود الثلث وحكى اختلاف الصحابة فيه وأن بعضهم قال بالمساواة وبعضهم قال بالثلث فكان هذا أقلها .
وقسم ابن السمعاني إلى قسمين : .
أحدهما : أن يكون ذلك فيما أصله البراءة فإن كان الاختلاف في وجوب الحق وسقوطه كان سقوطه أولى لموافقة براءة الذمة ما لم يقم دليل الوجوب وإن كان الاختلاف في قدره بعد الاتفاق على وجوبه كدية الميت إذا وجبت على قاتله فهل يكون الأخذ بأقله دليلا اختلف أصحاب الشافعي فيه .
القسم الثاني : أن يكون مما هو ثابت في الذمة كالجمعة الثابت فرضها مع اختلاف العلماء في عدد انعقادها فلا يكون الأخذ بالأقل دليلا لارتهان الذمة بها فلا تبرى الذمة عنه إلا بدليل لأن الذمة تبرأ بالأكثر إجماعا وفي الأقل خلاف فلذلك جعلها الشافعي تنعقد بأربعين لأن هذا العدد أكثر ما قيل الثاني : لا يكون دليلا لأنه لا ينعقد من الخلاف دليل انتهى والحاصل أنهم جعلوا الأخذ بأقل ما فيها متركبا من الإجماع والبراءة الأصلية وقد أنكر جماعة الأخذ بأقل ما قيل قال ابن حزم وإنما إذا أمكن ضبط أقوال جميع أهل الإسلام ولا سبيل إليه وحكى قولا بأنه يؤخذ بأكثر ما قيل ليخرج من عهدة التكليف بيقين ولا يخفاك أن الاختلاف في التقدير بالقليل والكثير أن كان باعتبار الأدلة ففرض المجتهد بما صح له منها من الجمع بينهما إن أمكن أو الترجيح إن لم يمكن وقد تقرر أن الزيادة الخارجة من مخرج صحيح الواقعة غير منافية للمزيد مقبولة يتعين الأخذ بها والمصير الى مدلولها وان كان الاختلاف في التقدير باعتبار المذاهب فلا اعتبار عند الجمهور بمذاهب الناس بل هو متعبد باجتهاده وما يؤدي إليه نظره من الأخذ بالأقل أو بالأكثر أو بالوسط وأما المقلد فليس له من الأمر شيء بل هو أسير إمامه في جميع دينه وليته لم يفعل وقد أوضحنا الكلام في التقليد في المؤلف الذي سميناه أدب الطلب وفي الرسالة المسماة القول المفيد في حكم التقليد .
وكما وقع الخلاف في مسألة الأخذ بأقل ما قيل كذلك وقع الخلاف في الأخذ بأخف ما قيل وقد صار بعضهم إلى ذلك لقوله تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وقوله { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وقوله ضصض [ بعثت بالحنفية السمحة السهلة ] وقوله [ يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا ] وبعضهم صار إلى الأخذ بالأشق ولا معنى للخلاف في مثل هذا لأن الدين كله يسر والشريعة جميعها سمحة سهلة والذي يجب الأخذ به ويتعين العمل عليه هو ما صح دليله فإن تعارضت الأدلة لم يصلح أن يكون الأخف مما دلت عليه أو الأشق مرجحا بل يجب المصير إلى المرجحات المعتبرة .
الفائدة الثالثة : لا خلاف أن المثبت للحكم يحتاج إلى إقامة الدليل عليه وأما النافي له فاختلفوا في ذلك على مذاهب .
الأول : أن يحتاج إلى إقامة الدليل على النفي نقله الأستاذ أبو منصور عن طوائف أهل الحق ونقله ابن القطان على أكثر اصحاب الشافعي وجزم به القفال والصيرفي وقال الماوردي إنه مذهب الشافعي وجمهور الفقهاء والمتكلمين وقال القاضي في التقريب إنه الصحيح وبه قال الجمهور قالوا لأنه مدع والبينة على المدعي ولقوله تعالى : { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله } فذمهم على نفي ما لم يعلموه مبينا ولقوله تعالى : { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } في جواب قوله { لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى } ولا يخفاك أن الاستدلال بهذه الأدلة واقع في غير موضعه فإن النافي غير مدع بل قائم مقام المنع متمسك بالبراءة الأصلية ولا هو مكذب بما لم يحط بعلمه بل واقف حتى يأتيه الدليل وتضطره الحجة إلى العمل وأما قوله تعالى : { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } فهو نصب للديل في غير موضعه فإنه إنما طلب منهم البرهان لادعائهم أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى .
المذهب الثاني : أنه لا يحتاج إلى إقامة دليل وإليه ذهب أهل الظاهر إلا ابن حزم فإنه رجح المذهب الأول قالوا لأن الأصل في الأشياء النفي والعدم فمن نفى الحكم له أن يكتفي بالاستصحاب وهذا المذهب قوي جدا فإن النافي عهدته أن يطلب الحجة من المثبت حتى يصير إليها ويكفيه في عدم إيجاب الدليل عليه التمسك بالبراءة الأصلية فإنه لا ينقل عنها إلا دليل يصلح للنقل .
المذهب الثالث : أنه يحتاج إلى إقامة الدليل في النفي العقلي دون الشرعي حكاه القاضي في التقريب و ابن فورك .
المذهب الرابع : أنه يحتاج إلى الدليل في غير الضروري بخلاف الضروري وهذا اختاره الغزالي ولا وجه له فإن الضروري يستغني بكونه ضروريا ولا يخالفه مخالف إلا على جهة الغلط أو الاعتراض الشبهة ويرتفع عنه ذلك ببيان ضروريته وليس النزاع إلا في الضروري .
المذهب الخامس : أن النافي إن كان شاكا في نفيه لم يحتج إلى دليل وإن كان نافيا له عن معرفة احتاج إلى ذلك إن كانت تلك المعرفة استدلالية لا إن كانت ضرورية فلا نزاع في الضروريات كذا قال القاضي عبد الوهاب في الملخص ولا وجه له فإن النافي عن معرفة يكفيه المثبت بإقامة الدليل حتى يعمل به أو يرده لأنه هو الذي جاء بحكم يدعى أنه واجب عليه وعلى خصمه وعلى غيرهما .
المذهب السادس : أن النافي أن نفى العلم عن نفسه فقال لا أعلم ثبوت هذا الحكم فلا يلزمه الدليل وإن نفاه مطلقا احتاج إلى الدليل لأن نفي الحكم حكم كما أن الاثبات حكم قال ابن البرهان في الأوسط وهذا التفصيل هو الحق انتهى قلت بل الحق ما قدمناه .
المذهب السابع : أنه إن ادعى لنفسه علما بالنفي احتاج إلى الدليل وإلا فلا هكذا ذكر هذا المذهب بعض أهل الجدل واختاره المطرزي وهو قريب من المذهب الخامس .
المذهب الثامن : أنه إذا قال لم أجد فيه دليلا بعد الفحص عنه وكان من أهل الاجتهاد لم يحتج إلى دليل وإلا احتاج هكذا قال ابن فورك .
المذهب التاسع : أنه حجة دافعة لا موجبة حكاه أبو زيد ولا وجه له فإن النفي ليس بحجة موجبة على جميع الأقوال وإنما النزاع في كونه يحتاج إلى الاستدلال على النفي فيطالب به مطالبة مقبولة في المناظرة أم لا واختلفوا إذا قال العالم بحثت وفحصت فلم أجد دليلا هل يقبل منه ذلك ويكون عدم الوجدان دليلا له فقال البيضاوي يقبل لأنه يغلب ظن عمده وقال ابن برهان في الأوسط أن صدر هذا عن المجتهد في باب الاجتهاد والفتوى بل منه ولا يقبل منه في المناظرة لأن قوله بحثت فلم أظفر يصلح أن يكون عذرا فيما بينه وبين الله أما انتهاضه في حق خصمه فلا .
الفائدة الرابعة : سد الذرائع الذريعة هي المسألة التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل المحظور قال الباجي ذهب مالك إلى المنع من الذرائع وقال أبو حنفية والشافعي لا يجوز منعها استدل المانع بمثل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا } وقوله { واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر } وما صح عنه ضصض من قوله [ لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها ] وقوله ضصض [ دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ] وقوله : [ الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات والمؤمنون وقافون عند الشبهات ] وقوله ضصض [ من حام حول الحمى يوشك أن يواقعه ] قال القرطبي سد الذرائع ذهب إليه مالك وأصحابه وخالفه أكثر الناس تأصيلا وعملوا عليه في أكثر فروعهم تفصيلا ثم قرر موضع الخلاف فقال اعلم أن ما يفضي إلى الوقوع قطعا أولا الأول ليس في هذا الباب بل من باب ما لا خلاص من الحرام إلا باجتنابه ففعله حرام من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب والذي لا يلزم أما أن يفضي إلى المحظور غالبا أو ينفك عنه غالبا أو يتساوى الأمران وهو المسمى بالذرائع عندنا فالأول لا بد من مراعاته والثاني والثالث اختلف الأصحاب فيه فمنهم من يراعيه وربما يسميه التهمة البعيدة والذرائع الضعيفة قال القرافي : مالك لم ينفرد بذلك بل كل أحد يقول بها ولا خصوصية للمالكية بها إلا من حيث زيادتهم فيها قال فإن من الذرائع ما هو معتبر بالإجماع كالمنع من حفر الآبار في طريق المسلمين وإلقاء السم في طعامهم وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله ومنها ما هو ملغى إجماعا كزراعة العنب فإنها لا تمنع خشية الخمر وإن كانت وسيلة إلى المحرم ومنها هو مختلف فيه كبيوع الآجال فنحن لا نغتفر الذريعة فيها وخالفنا غيرنا في أصل القضية أنا قلنا بسد الذرائع أكثر من غيرنا لا أنها خاصة بنا قال وبهذا تعلم بطلان استدلال أصحابنا على الشافعية في هذه المسألة بقوله { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله } وقوله { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت } فقد ذمهم بكونهم تذرعوا للصيد يوم السبت المحرم عليهم لحبس الصيد يوم الجمعة وقوله ضصض [ لا تقبل شهادة خصم وظنين ] خشية الشهادة بالباطل ومنع شهادة الآباء للأبناء وإنما قلنا إن هذه الأدلة لا تفيد في محل النزاع لأنها تدل على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة وهذا أمر مجمع عليه وإنما النزاع في ذريعة خاصة وهو بيوع الآجال ونحوها فينبغي أن يذكروا أدلة خاصة بمحل النزاع وإن قصدوا القياس على هذه الذرائع المجمع عليها فينبغي أن تكون حجتهم القياس وحينئذ فليذكروا حتى يتعرض الخصم لدفعه بالفارق وهم لا يعتقدون أن دليلهم القياس قال بل من أدلة محل النزاع حديث زيد بن أرقم أن أمته قالت لعائشة إني بعت منه عبدا بثمانمائة إلى العطاء واشتريته منه نقدا بستمائة فقالت عائشة بئسما اشتريت وأخبري زيد بن ارقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله ضصض إلا أن يتوب قال أبو الوليد بن رشد وهذه المبايعة كانت بين أم ولد زيد بن أرقم ومولاها قبل العتق فيخرج قول عائشة على تحريم الربا بين السيد وعبده مع القول بتحريم هذه الذرائع ولعل زيدا لا يعتقد تحريم الربا بين السيد وعبده قال الزركشي وأجاب أصحابنا عن ذلك بأن عائشة إنما قالت ذلك باجتهادها واجتهاد واحد من الصحابة لا يكون حجة على الآخر بالإجماع ثم قولها معارض بفعل زيد بن أرقم ثم أنها أنكرت ذلك لفساد التعيين فإن الأول فاسد بجهالة الأجل فإن وقت العطاء غير معلوم والثاني بناء على الأول فيكون فاسدا قال ابن الرفعة : الذريعة ثلاثة أقسام : أحدها ما يقطع بتوصيله إلى الحرام فهو حرام عندنا وعندهم يعني عند الشافعية والمالكية والثاني ما يقطع بأنه لا يوصل ولكن اختلط بما يوصل فكان من الاحتياط سد الباب وإلحاق الصورة النادرة التي قطع بأنها لا توصل إلى الحرام بالغالب منها الموصل إليه وهذا غلو في القول بسد الذرائع والثالث ما يحتمل ويحتمل وفيه مراتب ويختلف الترجيح عندهم بسبب تفاوتها قال ونحن نخالفهم فيها إلا القسم الأول لانضباطه وقيام عليه انتهى ومن أحسن ما يستدل به على هذا الباب ما قدمنا ذكره من قوله ضصض [ ألا وإن حمى الله معاصيه فمن حام حول الحمى يوشك أن يواقعه ] وهو حديث صحيح ويلحق به ما قدمنا ذكره من قوله ضصض [ دع ما يريبك إلى ما لايريبك ] وهو حديث صحيح أيضا وقوله ضصض [ الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس ] وهو حديث حسن وقوله ضصض [ استفت قلبك وإن أفتاك المفتون ] وهو حديث حسن أيضا .
الفائدةة الخامسة : دلالة الاقتران وقد قال بها جماعة من أهل العلم فمن الحنفية أبو يوسف ومن الشافعية المزني وابن أبي هريرة وحكى ذلك الباجي عن بعض المالكية قال ورأيت ابن نصر يستعملها كثيرا ومن ذلك استدلال مالك على سقوط الزكاة في الخيل بقوله تعالى : { والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة } قال فقرن بين الخيل والبغال والحمير لا زكاة فيها إجماعا فكذلك الخيل وأنكر دلالة الاقتران الجمهور فقالوا إن الاقتران في النظم لا يستلزم الاقتران في الحكم واحتج المثبتون إما بأن العطف يقتضي المشاركة وأجاب الجمهور بأن الشركة إنما تكون في المتعاطفات الناقصة المحتاجة إلى ما تتم به فإذا تمت بنفسها فلا مشاركة كما في قوله تعالى : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار } فإن الجملة الثانية معطوفة على الأولى ولا تشاركها في الرسالة ونحو ذلك كثير في الكتاب والسنة والأصل في كل كلام تام أن ينفرد بحكمه ولا يشاركه غيره فمن ادعى خلاف هذا في بعض المواضع فلدليل خارجي ولا نزاع فيما كان كذلك ولكن الدلالة فيه ليست للإقتران بل للدليل الخارجي أما إذا كان المعطوف ناقصا بأن لا يذكر خبره كقول القائل فلانة طالق وفلانة فلا خلاف في المشاركة ومثله عطف المفردات وإذا كان بينهما مشاركة في العلة فالتشارك في الحكم إنما كان لأجلها لأجل الاقتران وقد احتج الشافعي على وجوب العمرة بقوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } والأمر يقتضي الوجوب فكان احتجاجه بالأمر دون الاقتران وقال الصيرفي في شرح الرسالة في حديث أبي سعيد وغسل الجمعة على كل محتلم والسواك وأن يمس الطيب فهو دلالة على الغسل غير واجب لأنه قرنه بالسواك والطيب وهما غير واجبين بالاتفاق والمروي عن الحنفية كما حكاه الزركشي عنهم في البحر أنها إذا عطفت جملة على جملة فإن كانتا تامتين كانت المشاركة في أصل الحكم لا في جميع صفاته وقال لا تقتضي المشاركة أصلا وهي التي تسمى واو الاستئناف كقوله تعالى : { فإن يشإ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل } فإن قوله { ويمح الله الباطل } جملة مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها ولا هي داخلة في جواب الشرط وإن كانت الثانية ناقصة شاركت الأولى في جميع ما هي عليه قال وعلى هذا بنو بحثهم المشهور في قوله ضصض لا يقتل مسلم بكافر وقد سبق الكلام فيه .
الفائدة السادسة : دلالة الإلهام ذكرها بعض الصوفية وحكى الماوردي والرياني في كتاب القضاء في حجية الإلهام خلافا وفرعا عليه أن الإجماع هل يجوز انعقاده لا عن دليل وإلا فلا قال الزركشي في البحر وقد اختار جماعة من المتأخرين اعتماد الإلهام منهم في تفسيره في أدلة القبلة و ابن الصلاح في فتاواه فقال إلهام خاطر الحق من الحق قال ومن علامته أن ينشرح له الصدر ولا يعارضه معارض آخر قال أبو علي التميمي في كتاب التذكرة في أصول الدين ذهب بعض الصوفية إلى أن المعارف تقع اضطرار للعباد على سبيل الالهام بحكم وعد الله سبحانه وتعالى بشرط التقوى واحتج بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا } أي ما تفرقون به بين الحق والباطل وقوله تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } أي عن كل ما يلتبس على غيره وجه الحكم فيه وقوله تعالى { واتقوا الله ويعلمكم الله } فهذه العلوم الدينية تحصل للعباد إذا زكت أنفسهم وسلمت قلوبهم لله تعالى بترك المنهيات وامتثال المأمورات وخبره صدق ووعده حق واحتج شهاب الدين السهروردي على الإلهام بقوله تعالى : { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه } وبقوله { وأوحى ربك إلى النحل } فهذا الوحي هو مجرد الإلهام ثم إن من الوحي علوما تحدث في النفوس الزكية المطمئنة قال ضصض [ إن من أمتي المحدثين والمكلمين وإن عمر لمنهم ] وقال تعالى : { ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها } فأخبر أن النفوس ملهمة : قلت وهذا الحديث الذي ذكره هو ثابت في الصحيح بمعناه قال ابن وهب في تفسير الحديث أي ملهمون ولهذا قال صاحب نهاية الغريب جاء في الحديث تفسيره أنهم الملهمون والملهم هو الذي يلقى في نفسه الشيء فيخبر به حدسا وفراسة وهو نوع يخص به الله من يشاء من عباده كأنهم حدثوا بشيء فقالوه وأما قوله ضصض [ استفت قلبك وإن أفتاك الناس ] فذلك في الواقعة التي تتعارض فيها الأدلة قال الغزالي واستفتاء القلب إنما هو حيث أباح المفتى أما حيث حرم فيجب الامتناع ثم لا نقول على كل قلب فرب قلب موسوس ينفي كل شيء ورب متساهل يطير إلى كل شيء فلا اعتبار بهذين القلبين وإنما الاعتبار بقلب العالم الموفق لدقائق الأحوال فهو المحك الذي يمتحن به حقائق الأمور وما أعز هذا القلب قال البيهقي في شعب الإيمان هذا محمول على أنه يعرف في منامه من عالم الغيب ما عسى أن يحتاج إليه أو يحدث على لسان ملك بشيء من ذلك كما ورد في بعض طرق الحديث بلفظ وكيف يحدث قال يتكلم الملك على لسانه وقد روى عن إبراهيم بن سعد أنه قال في هذا الحديث يعني يلقى في روعه قال القفال لو تثبت العلوم بالإلهام لم يظن للنظر معنى ونسأل القائل بهذا عن دليله فإن احتج بغير الإلهام فهو ناقض قوله انتهى ويجاب عن هذا الكلام بأن مدعي الإلهام لا يحصر الأدلة في الإلهام حتى يكون استدلاله بغير الإلهام مناقضا لقوله نعم إن استدل على إثبات الإلهام بالإلهام كان في ذلك مصادرة على المطلوب لأنه استدل على محل النزاع بمحل النزاع ثم على تقدير الاستدلال لثبوت الإلهام بمثل ما تقدم من الأدلة من أين لنا أن دعوى هذا الفرد لحصول الإلهام له صحيحة وما الدليل على أن قلبه من القلوب التي ليست بموسوسة ولا بمتساهلة .
المسألة السابعة : في رؤيا النبي ضصض ذكر جماعة من أهل العلم منهم الأستاذ أبو إسحاق أن يكون حجة ويلزم العمل به وقيل حجة ولا يثبت به حكم شرعي وإن كانت رؤية النبي ضصض رؤية حق والشيطان لا يتمثل به لكن النائم ليس من أهل التحمل للرواية لعدم حفظه وقيل إنه يعمل به ما لم يخالف شرعا ثابتا ولا يخفاك أن الشرع الذي شرعه الله لنا على لسان نبينا ضصض قد كمله الله D وقال : { اليوم أكملت لكم دينكم } ولم يأتنا دليل يدل على أن رؤيته في النوم بعد موته ضصض إذ قال فيها بقول أو فعل فيها فعلا يكون دليلا وحجة بل قبضه الله إليه عند أن كمل لهذه الأمة ما شرعه لها على لسانه ولم يبق بعد حاجة للأمة في أمر دينها وقد انقطعت البعثة لتبليغ الشرائع وتبينها بالموت وإن كان رسولا حيا وميتا وبهذا تعلم أن لو قدرنا ضبط النائم لم يكن ما رآه من قوله ضصض أو فعله حجة عليه ولا على غيره من الأمة