الفصل الثاني في حجة القياس .
إعلم أنه قد وقع الاتفاق على أنه حجة في الأمور الدنيوية قال الفخر الرازي كما في الأدوية والأغذية وكذلك اتفقوا على حجية القياس الصادر منه ضصض وإنما وقع الخلاف في القياس الشرعي فذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء والمتكلمين إلى أنه أصل من أصول الشريعة يستدل به على الأحكام التي يرد بها السمع قال في المحصول اختلف الناس في القياس الشرعي فقالت طائفة العقل يقتضي جواز التعبد به في الجملة وقالت طائفة العقل يقتضي المنع من التعبد به والأولون قسمان منهم من قال وقع التعبد به ومنهم من قال لم يقع .
أما من اعترف بوقوع التعبد به فقد اتفقوا على أن السمع دال عليه ثم اختلفوا في ثلاثة مواضع : الأول أنه هل في العقل ما يدل عليه فقال القفال منا و أبو الحسين البصري من المعتزلة العقل يدل على وجوب العمل به وأما الباقون منا ومن المعتزلة فقد أنكروا ذلك والثاني أن أبا الحسين البصري زعم أن دلالة الدلائل السمعية عليه ظنية والباقون قالوا قطعية والثالث أن القاساني والنهرواني ذهبا إلى العمل بالقياس في صورتين : إحداهما إذا كانت العلة منصوصة بصريح اللفظ أو بإيمائه والصورة الثانية كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف وأما جمهور العلماء فقد قالوا بسائر الأقسية .
وأما القائلون بأن التعبد لم يقع به فمنهم من قال لم يوجد في السمع ما يدل على وقوع التعبد به فوجب الامتناع من العمل به ومنهم من لم يقنع بذلك بل تمسك في نفيه بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة وإجماع العترة وأما القسم الثاني : وهم الذين قالوا بأن العقل يقتضي المنع من التعبد به فهم فريقان أحدهما خصص ذلك المنع بشرعنا وقال لأن مبنى شرعنا الجمع بين المختلفات والفرق بين المتماثلات وذلك يمنع من القياس وهو قول النظام والفريق الثاني : الذين قالوا يمتنع ورود التعبد به في كل الشرائع انتهى .
قال الأستاذ أبو منصور : المثبتون للقياس اختلفوا فيه على أربعة مذاهب أحدهما ثبوته في العقليات والشرعيات وهو قول أصحابنا من الفقهاء والمتكلمين وأكثر المعتزلة والثاني في العقليات دون الشرعيات وبه قال جماعة من أهل الظاهر والثالث نفيه في العلوم العقلية وثبوته في الأحكام الشرعية التي ليس فيها نص ولا إجماع وبه قال طائفة من القائلين بأن المعارف ضرورية والرابع نفيه في العقليات والشرعيات وبه قال أبو بكر بن داود الأصفهاني انتهى والمثبتون له اختلفوا أيضا قال الأكثرون هو دليل بالشرع وقال القفال وأبو الحسين البصري هو دليل بالعقل والأدلة السمعية وردت مؤكدة له وقال الدقاق يجب العمل به بالعقل والشرع وجزم به ابن قدامة في الروضة وجعله مذهب أحمد بن حنبل لقوله لايستغني أحد عن القياس قال وذهب أهل الظاهر والنظام إلى امتناعه عقلا وشرعا وإليه ميل أحمد بن حنبل لقوله يجتنب المتكلم في الفقه المجمل والقياس وقد تأوله القاضي ابو يعلى على ما إذا كان القياس مع وجود النص لأنه حينئذ يكون فاسد الاعتبار ثم اختلف القائلون به أيضا اختلافا آخر وهو دلالة السمع عليه قطعية أو ظنية ؟ فذهب الأكثرون إلى الأول وذهب أبو الحسين والآمدي إلى الثاني .
وأما المنكرون للقياس فأول من باح بإنكار النظام وتابعه قوم من المعتزلة كجعفر بن حرب وجعفر بن حبشة ومحمد بن عبدالله الاسكافي وتابعهم على نفيه في الأحكام داود الظاهري قال أبو القاسم البغدادي فيما حكاه عنه ابن عبد البر في كتاب جامع العلم ما علمت أحدا سبق النظام إلى القول بنفي القياس قال ابن عبد البر في كتاب جامع العلم أيضا لاخلاف بين فقهاء الأمصار وسائر أهل السنة في نفي القياس في التوحيد وإثباته في الأحكام إلا داود فإنه نفاه فيهما جميعا قال ومنهم من أثبته في التوحيد و نفاه في الأحكام وحكى القاضي أبو الطيب الطبري عن داود النهرواني والمغربي والقاساني أن القياس محرم بالشرع قال الأستاذ أبو منصور أما داود فزعم أنه لا حادثة إلا وفيها حكم منصوص عليه في القرآن أو السنة أو معدول عنه بفحوى النص ودليله وذلك يغنى عن القياس قال ابن القطان ذهب داود وأتباعه إلى أن القياس في دين الله باطل ولا يجوز القول به قال ابن حزم في الأحكام ذهب أهل الظاهر إلى إبطال القول بالقياس جملة وهو قولنا الذي ندين الله به والقول بالعلل باطل انتهى والحاصل أن داود الظاهري وأتباعه لايقولون بالقياس ولو كانت العلة منصوصة ونقل القاضي ابو بكر والغزالي عن القاساني والنهرواني القول به فيما كانت العلة منصوصة .
وقد استدل المانعون من القياس بأدلة عقلية ونقلية ولا حاجة لهم إلى الاستدلال فالقيام في مقام المنع يكفيهم وإيراد الدليل على القائلين به وقد جاؤوا بأدلة عقلية لا تقوم بها الحجة فلا نطول البحث بذكرها وجاءوا بأدلة نقلية فقالوا دل على ثبوت التعبد بالقياس الشرعي الكتاب والسنة والإجماع .
أما الكتاب فقوله تعالى : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } ووجه الاستدلال بهذه الآية أن الاعتبار مشتق من العبور وهو المجاوزة يقال عبرت على النهر والمعبر الموضع الذي يعبر عليه والمعبر السفينة التي يعبر فيها أداة العبور والعبرة الدمعة التي عبرت من الجفن وعبر الرؤيا جاوزها إلى ما يلازمها قالوا فثبت بهذه الاستعمالات أن الاعتبار حقيقة في المجاوزة فوجب أن لا يكون حقيقة في غيرها دفعا للاشتراك والقياس عبور من حكم الأصل إلى حكم الفرع فكان داخلا تحت الأمر قال في المحصول فإن قيل لا نسلم أن الاعتبار هو المجاوزة فقط بل هو عبارة عن الألفاظ بوجوه : الأول أنه لا يقال لمن يستعمل القياس العقلي إنه معتبر الثاني أن المتقدم في إثبات الحكم من طريق القياس إذا لم يفكر في أمر معاده يقال إنه غير معتبر أو قليل الاعتبار الثالث قوله تعالى : { إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } { وإن لكم في الأنعام لعبرة } والمراد الأتعاظ الرابع يقال السعيد من اعتبر بغيره والأصل في الكلام الحقيقة فهذه الأدلة تدل على أن الاعتبار حقيقة في الألفاظ لا في المجاوزة فحصل التعارض بين ما قلتم وما قلنا فعليكم بالترجيح معنا فإن الفهم أسبق إلى ما ذكرناه سلمنا أن ما ذكرتموه حقيقة لكن شرط حمل اللفظ على الحقيقة أن لا يكون هناك ما يمنع فإنه لو قال يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فقيسوا الذرة على البركان ذلك ركيكا لا يليق بالشرع وإذا كان كذلك ثبت أنه وجد ما يمنع من حمل اللفظ على حقيقة سلمنا أنه لا مانع من حمله على المجاوزة لكن لا نسلم أن الأمر بالمجاوزة أمر بالقياس الشرعي بيانه أن كل من تمسك بدليل على مدلوله فقد عبر من الدليل إلى المدلول فمسمى الاعتبار مشترك فيه بين الاستدلال بالدليل العقلي القاطع وبالنص وبالبراءة الأصلية وبالقياس من الشرع وكل واحد من هذه الأنواع يخالفه الآخر بخصوصيته وما به الاشتراك غير دال على ما به الامتياز لا بلفظه ولا بمعناه فلا يكون دالا على النوع الذي ليس إلا عبارة من مجموع جهة الاشتراك قال وأيضا فنحن نوجب اعتبارات أخر : الأول إذا نص الشارع على علة الحكم فهاهنا القياس عندنا واجب والثاني قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف والثالث الأقيسة في الأمور الدنيا فإن العمل بها عندنا واجب والرابع أن يشبه الفرع بالأصل في أن لا نستفيد حكمه إلا من النص والخامس الاتعاظ والانزجار بالقصص والأمثال فثبت بما تقدم أن الآتي بفرد من أفراد ما يسمى اعتبارا يكون خارجا عن عهدة هذا الأمر وثبت أن بيانه في صور كثيرة فلا يبقى فيه دلالة ألبته على الأمر بالقياس الشرعي ثم قلنا جعله حقيقة في المجاوزة أولى لوجهين : الأول أنه يقال فلان اعتبر فاتعظ فيجعلون الاتعاظ معلول الاعتبار وذلك يوجب التغاير الثاني أن معنى المجاوزة حاصل في الاتعاظ فإن الانسان ما لم يستدل بشيء آخر على حال نفسه لا يكون متعظا ثم أطال في تقرير هذا بما لا طائل تحته .
ويجاب عن الوجه الأول بالمعارضة فإنه يقال فلان قاس هذا على هذا فاعتبر والجواب الجواب ويجاب عن الثاني بمنع وجود معنى المجاوزة في الاتعاظ فإن من نظر في شيء من المخلوقات فاتعظ به لا يقال فيه متصف بالمجاوزة لا لغة ولا شرعا ولا عقلا وأيضا يمنع وجود المجاوزة في القياس الشرعي وليس ما يفيد ذلك البتة ولو كان القياس مأمورا به في هذه الآية لكونه فيه معنى الاعتبار لكان كل اعتبار أو عبور مأمورا به واللازم باطل والملزوم مثله وبيانه أنه لم يقل أحد من المتشرعين ولا من العقلاء إنه يجب على الإنسان أن يعبر من هذا المكان إلى هذا المكان أو يجري دمع عينه أو يعبر رؤيا الرائي مع أن هذه الأمور أدخل في معنى العبور والاعتبار من القياس الشرعي والحاصل أن هذه الآية لا تدل على القياس الشرعي لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام ومن أطال الكلام في الاستدلال بها على ذلك فقد شغل الحيز بما لا طائل تحته .
واستدل الشافعي في الرسالة على إثبات القياس بقوله تعالى : { فجزاء مثل ما قتل من النعم } قال فهذا تمثيل الشيء يعدله وقال { يحكم به ذوا عدل منكم } وأوجب المثل ولم يقل أي مثل فوكل ذلك إلى اجتهادنا ورأينا وأمر بالتوجه إلى القبلة بالاستدلال وقال { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } انتهى ولا يخفاك أن غاية ما في آية الجزاء هو المجيء بمثل ذلك الصيد وكونه مثلا له موكول إلى العدلين ومفوض إلى اجتهادهما وليس في هذا دليل على القياس الذي هو إلحاق فرع بأصل العلة جامعة وكذلك الأمر بالتوجه إلى القبلة فليس فيه إلا إيجاب تحري الصواب في أمرها وليس ذلك من القياس في شيء .
واستدل ابن سريج على إثبات القياس بقوله تعالى { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } قالوا أولوا الأمر هم العلماء والاستنباط هو القياس ويجاب عنه بأن الاستنباط هو استخراج الدليل على المدلول بالنظر فيما يفيده من العموم أو الخصوص أو الإطلاق أو التقيد أو الاجمال أو التبيين في نفس النصوص أو نحو ذلك مما يكون طريقا إلى استخراج الدليل منه ولو سلمنا اندراج القياس تحت مسمى الاستنباط لكان ذلك مخصوصا بالقياس المنصوص على علته وقياس الفحوى ونحوه لا بما ملحقا بمسلك من مسالك العلة التي هي محض رأي لم يدل عليها دليل من الشرع فإن ذلك ليس من الاستنباط من الشرع بما أذن الله له بل من الاستنباط بما لم يأذن الله به .
واستدل أيضا بقوله { إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها } الآية قال لأن القياس تشبيه الشيء فما جاز من فعل من لا يخفى عليه خافية فهو ممن لا يخلو من الجهالة والنقص أجوز وذلك من فعل من لا يخفى عليه خافية لأننا نعلم أنه صحيح من فعل لا يخلو من الجهالة والنقص لأنا لا نقطع بصحته بل ولا نظن ذلك لما في فاعله من الجهالة والنقص .
واستدل غيره بقوله تعالى : { قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة } ويجاب عنه بمنع كون هذه الآية تدل على المطلوب لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام وغاية ما فيها الاستدلال بالأثر اللاحق وكون المؤثر فيهما واحدا وذلك غير القياس الشرعي الذي هو إدراج فرع تحت أصل لعلة جامعة بينهما .
واستدل ابن تيمية على ذلك بقوله تعالى : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } وتقريره أن العدل هو التسوية والقياس هو التسوية بين مثلين في الحكم فيتناوله عموم الآية ويجاب عنه بمنع كون الآية دليلا على المطلوب بوجه من الوجوه ولو سلمنا لكان ذلك في الأقيسة التي قام الدليل على نفي الفارق فيها فإنه لا تسوية إلا في الأمور المتوازنة ولا توازن إلا عند القطع بنفي الفارق لا في الأقيسة التي هي شعبة من شعب الرأي ونوع من أنواع الظنون الزائفة وخصلة من خصال الخيالات المختلة .
وإذا عرفت الكلام على ما استدلوا به من الكتاب العزيز لإثبات القياس فاعلم أنهم قد استدلوا لإثباته من السنة بقوله ضصض فيما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم من حديث الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة قال حدثنا ناس من أصحاب معاذ عن معاذ قال لما بعثه النبي ضصض إلى اليمن قال [ كيف تقضي إذا عرض لك قضاء قال أقضي بكتاب الله قال فإن لم تجد في كتاب الله قال فبسنة رسول الله ضصض قال فإن لم تجد في سنة رسول الله ضصض ولا في كتاب الله قال اجتهد رأيي ولا آلو قال فضرب رسول الله ضصض صدره وقال الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله ] والكلام في إسناد هذا الحديث يطول وقد قيل إنه مما تلقى بالقبول وأجيب عنه بأن اجتهاد الرأي هو عبارة عن استفراغ الجهد في الطلب للحكم من النصوص الخفية ورد بأنه إنما قال أجتهد رأيي بعد عدم وجوده لذلك الحكم في الكتاب والسنة وما دلت عليه النصوص الخفية لا يجوز أن يقال أنه غير موجود في الكتاب والسنة وأجيب عن هذا الرد بأن القياس عند القائلين به مفهوم من الكتاب والسنة فلا بد من حمل الاجتهاد في الرأي على ما عدا القياس فلا يكون الحديث حجة لإثبات واجتهاد الرأي كما يكون باستخراج الدليل من الكتاب والسنة ويكون بالتمسك بالبراءة الأصلية أو بأصالة الإباحة في الأشياء أو في الخطر على اختلاف الأقوال في ذلك أو التمسك بالمصالح أو التمسك بالاحتياط وعلى تسليم دخول القياس في اجتهاد الرأي فليس المراد كل قياس بل المراد القياسات التي يسوغ العمل بها والرجوع إليها كالقياس الذي علته منصوصة والقياس الذي قطع فيه بنفي الفارق في الدليل الذي يدل على الأخذ بتلك القياسات المبنية على تلك المسالك التي ليس فيها إلا مجرد الخيالات المختلفة والشبه الباطلة وأيضا فعلى التسليم لا دلالة للحديث إلا على العمل بالقياس في أيام النبوة لأن الشريعة إذ ذاك لم تكمل فيمكن عدم وجدان الدليل في الكتاب والسنة وأما بعد النبوة فقد كمل الشرع لقوله : { اليوم أكملت لكم دينكم } ولا معنى للإكمال إلا وفاء النصوص بما يحتاج إليه أهل الشرع إما بالنص على كل فرد أو باندراج ما يحتاج إليه تحت العمومات الشاملة ومما يؤيد ذلك قوله تعالى : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } وقوله { ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } .
واستدلوا أيضا بما ثبت عن النبي ضصض من القياسات كقوله [ أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزئ عنه ؟ قالت نعم قال فدين الله أحق أن يقضي ] وقوله لرجل سأله [ فقال أيقضي أحدنا شهوته ويؤجر عليها فقال أرأيت لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر قال نعم قال فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر وقال لمن أنكر ولده الذي جاءت به امرأته أسود هل لك من أبل قال نعم قال فما ألوانها قال حمر قال فهل فيها من أورق قال نعم قال فمن اين قال لعله نزعه عرق قال وهذا لعله نزعه عرق وقال لعمر وقد قبل امرأته وهو صائم أرأيت لو تمضمضت بماء وقال يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ] وهذه الأحاديث ثابتة في دواوين الإسلام وقد وقع منه ضصض قياسات كثيرة حتى صنف الناصح الحنبلي جزءا في أقيسته ضصض ويجاب عن ذلك بأن هذه الأقيسة صادرة عن الشارع المعصوم الذي يقول الله سبحانه فيما جاءنا به عنه { إن هو إلا وحي يوحى } ويقول في وجوب اتباعه { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } وذلك خارج عن محل النزاع فإن القياس الذي كلامنا فيه هو قياس من لم يثبت له العصمة ولا وجب اتباعه ولا كان كلامه وحيا بل من جهة نفسه الأمارة وبعقله المغلوب بالخطأ وقد قدمنا أنه قد وقع الاتفاق على قيام الحجة بالقياسات الصادرة عنه ضصض .
واستدلوا أيضا بإجماع الصحابة على القياس قال ابن عقيل الحنبلي وقد بلغ التواتر المعنوي عن الصحابة باستعماله وهو قطعي وقال الصفي الهندي دليل الإجماع هو المعول عليه لجماهير المحققين من الأصوليين وقال الرازي في المحصول مسلك الإجماع هو الذي عول جمهور الأصوليين وقال ابن دقيق العيد عندي أن المعتمد اشتهار العمل بالقياس في أقطار الأرض شرقا وغربا قرنا بعد قرن عند جمهور الأمة إلا عند شذوذ متأخرين قال وهذا أقوى الأدلة ويجاب عنه بمنع ثبوت هذا الإجماع فإن المحتجين بذلك إنما جاؤونا بروايات عن أفراد من الصحابة محصورين في غاية القلة فكيف يكون ذلك إجماعا لجميعهم مع تفرقهم في الأقطار واختلافهم في كثير من المسائل ورد بعضهم على بعض وإنكار بعضهم لما قاله البعض كما ذلك معروف وبيانه أنهم اختلفوا في الجد مع الاخوة على أقوال معروفة وإنكار بعضهم على بعض وكذلك اختلفوا في مسألة زوج وأم وإخوة لأم وإخوة لأب وأم وأنكر بعضهم على بعض وكذلك اختلفوا في مسألة الخلع وهكذا وقع الانكار من جماعة من الصحابة على من عمل بالرأي منهم والقياس إن كان منه فظاهر وإن لم يكن منه فقد أنكره كما في هذه المسائل التي ذكرناها ولو سلمنا لكان ذلك الإجماع إنما هو على القياسات التي وقع النص على علتها والتي قطع فيها بنفي الفارق فما الدليل على أنهم قالوا بجميع أنواع القياس الذي اعتبره كثير من الأصوليين أثبتوه بمسالك تنقطع فيها أعناق الإبل وتسافر فيها الأذهان حتى تبلغ إلى ما ليس بشيء وتتغلغل فيها العقول حتى تأتي بما ليس من الشرع في ورد ولا صدر ولا من الشريعة السمحة السهلة في قبيل ولا دبير وقد صح عنه ضصض أنه قال : [ تركتكم على الواضحة ليلها كنهارها ] وجاءت نصوص الكتاب العزيز بما قدمنا من إكمال الدين وبما يفيد هذا المعنى ويصحح دلالته ويؤيد براهينه وإذا عرفت ما حررناه وتقرر لديك جميع ما قررناه فاعلم أن القياس المأخوذ به هو ما وقع النص على علته وما قطع فيه بنفي الفارق وما كان من باب فحوى الخطاب أو لحن الخطاب على إصطلاح من يسمى ذلك قياسا وقد قدمنا أنه من مفهوم الموافقة .
ثم اعلم أن نفاة القياس لم يقولوا بإهدار كل ما يسمى قياسا وإن كان منصوصا على علته أو مقطوعا فيه بنفي الفارق بل جعلوا هذا النوع من القياس مدلولا عليه بدليل الأصل مشمولا به مندرجا تحته وبهذا يهون عليك الخطب ويصغر عندك ما استعظموه ويقرب لديك ما بعدوه لأن الخلاف في هذا النوع الخاص صار لفظيا وهو من حيث المعنى متفق على الأخذ به والعمل عليه واختلاف طريقة العمل لا يستلزم الاختلاف المعنوي لا عقلا ولا شرعا ولا عرفا وقد قدمنا لك أن ما جاءوا به من الأدلة العقلية لا تقوم الحجة بشيء منها ولا تستحق تطويل ذيول البحث بذكرها وبيان ذلك أن أنهض ما قالوه في ذلك أن النصوص لا تفي بالأحكام فإنها متناهية والحوادث غير متناهية ويجاب عن هذا بما قدمنا من أخباره D لهذه الأمة بأنه قد أكمل لها دينها وبما اخبرها رسوله ضصض من أنه قد تركها على الواضحة التي ليلها كنهارها .
ثم لا يخفى على ذي لب صحيح وفهم صالح أن في عمومات الكتاب والسنة ومطلقاتهما وخصوص نصوصهما ما يفي بكل حادثة تحدث ويقوم بيان كل نازلة تنزل عرف ذلك من عرفه وجهله من جهله