مبحث البغاة والمحاربين .
التفسير : الأصل في هذا الباب ما روي عن انس بن مالك Bه أن ناسا من عرينة قدما المدينة فاجتووها فبعهم رسول الله A في إبل الصدقة وامرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها ففعلوا فصحوا فارتدوا عن الإسلام وقتلوا الراعي وساقوا الإبل فأرسل رسول الله A في آثارهم فجيء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلافن وسمر أعينهم والقاهم في الحرة قال أنس : فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشا حتى ماتوا ) فنزل قوله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وارجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض . وذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم } آية 33 من سورة المائدة روي عن عكرمة والحسن البصري . وعبد الله بن عباس رضي تعالى عنهم أن هذه الآية نزلت في المشركين وقال أبن عباس : كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين رسول الله A عهد وميثاق فنقضوا العهد والفسدوا في الرض فخير الله رسول إن شاء أن يقتل وإن شاء أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف رواه أبن جرير .
والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات الذميمة كما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي قلابة واسمه عبد الله بن زيد الجرمي البصري عن أنس بن مالك ( أن نفرا من عكل ثمانية قدموا على رسول الله A فبايعوه على الإسلام فاستوخموا المدينة وسقمت أجسادهم فشكوا إلى رسول الله A ذلك فقال : ( ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبوا من أبوالها وألبانها ) فقالوا : بل فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها فصحوا فقتلوا الراعي وطردوا الإبل فبلغ ذلك رسول الله A فبعث في آثارهم فأدركوا فجيء بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم . وسمرت أعينهم ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا ) واللفظ لمسلم . وتسمى هذه الآية آية المحاربة وهي المضادة والمخالفة وهي صادقة على الكفر وعلى قطع الطريق وإخافة السبيل .
وكذا الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر حتى قال كثير من السلف منهم سعيد بن المسيب : إن قبض الدراهم والدنانير من الافساد في الرض وقد قال الله تعالى : { وإذا تولى سعى في الرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يجب المفسدين } آية 205 من سورة البقرة .
{ ذلك لهم خزي في الدنيا } أي هذا الذي ذكرته من قتلهم ومن صلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ونفيهم من الرض خزي لهم بين الناس وشر وعار ونكال وذلة وعقوبة في عاجل الدنيا مع ما ادخر الله لهم من العذاب العظيم يوم القيامة وهذا يؤيد قول من قال : إن الآية نزلت في المشركين فأما أهل الإسلام ففي صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت Bه قال : ( أخذ علينا رسول الله A كما أخذ على النساء ألا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل اولادنا ولا يعضه بعضنا بعضا فمن وفى منكم فأجره على الله تعالى ومن اصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له ومن ستره الله فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه ) .
وعن علي Bه ( قال : قال رسول الله A : ( من أذنب ذنبا في الدنيا فعوقب به فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده ومن أذنب ذنبا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه فالله أكرم من أن يعود عليه في شيء عفا عنه ( رواه الإمام أحمد والترمذي وأبن ماجة وقال الترمذي حسن غريبن وسئل الحافظ الدارقطني عن هذا الحديث فقال : روي مرفوعا وموقوفا قال : ورفعه صحيح .
قال تعالى : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } أية 34 من سورة المائدة أما على رأي من قال : إن الآية في أهل الشرك فظاهر وأما المحاربون المسلمون فإن تابوا قبل المقدرة عليهم فإنه يسقط عنهم أحكام القتل والصلب وقطع الرجل وهل يسقط قطع اليد أم لا ؟ فيه قولان للعلماء وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع وعليه عمل الصحابة .
روي عن عامر الشعبي قال : ( جاء رجل من مراد إلى أبي موسى وهو على الكوفة في إمارة عثمان رضي الله تعالى عنه بعد ما صلى المكتوبة فقال : يا أبا موسى هذا مقام العائد بك أنا فلان بن فلان المرادي إني كنت حاربت الله ورسوله وسعيت في الأرض فسادا وإني تبت من قبل أن تقدروا علي فقام أبو موسى فقال : إن هذا فلان بن فلان وغنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا وغنه تاب من قبل أن نقدر عليه فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير فإن يك صادقا فسبيل من صدق وإن يك كاذبا تدركه ذنوبه فأقام الرجل ما شاء الله ثم أنه خرج فأدركه الله الله تعالى بذنوبه فقتله )