مبحث في العاقلة وكيفية تأجيل ما تحمله .
الحنفية - قالوا : الدية في شبه العمد وفي الخطأ وكل دية تجب بنفس القتل على العاقلة والعاقلة هم الذين يؤدون الدية والأصل في وجوبها على العاقلة قول النبي A في حديث حمل بن مالك رضي الله تعالى عنه للأولياء ( قوموا فدوه ) .
ولأن النفس محترمة لا وجه إلى الإهدار والخاطئ معذور وكذا الذي تولى شبه العمد نظر إلى الآلة فلا وجه إلى إيجاب العقوبة عليه وفي إيجاب مال عظيم اجحافة واستئصاله فيصيل عقوبة فضم عليه العاقلة فكانوا هم المقصرون في تركهم مراقبته فخصوا به .
والعقلة هم أهل الديوان إن كان القاتل من اهل الديوان يؤخذ من عطاياهم في ثلاث سيني واهل الديوان هم اهل الريات والألوية وهم الجيش الذين كتبت أسماءهم في الديوان والجريدة لأن سيدنا عمر بن الخكاب رضي الله تعالى عنه هو أول من دون الدواوين وجعل العقل كان على أهل النصرة وقد كانت بأنواع بالقرابة والحلف والولاء والعد وفي عهد عمر Bه قد صارت بالديوان فجعلها على أهله اتباعا للمعنى ولهذا قالوا : لو كان اليوم قوم تناصرهم بالحرف فعاقلتهم أهل الحرفة وإن كان بالحلف فأهله والدية صلة ولكن إيجابها فيما هو صلة وهو العطاء اولى منه في اصول أموالهم والتقدير بثلاث سيني مروي عن النبي A ومحكي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعال عنه ولأن الأخذ من العطاء للتخفيف والعطاء يخرج في كل سنة مرة فإن خرجت العطاء في أكثر من ثلاث سنين أو أقل اخذ منها لحصول المقصود ولو خرج للقاتل ثلاث عطايا في سنة واحدة في المستقبل يؤخذ منها كل الدية لأن الوجوب بالقضاء .
وإذا كان جميع الدية في ثلاث سنين فكل ثلث منها في سنة وإن كان الواجب بالفعل ثلث دية النفس أو أقل كان في سنة واحدة . وما زاد عن الثاث إلى تمام الثلثين في السنة الثانية وما زاد على ذلك إلى تمام الدية في السنة الثالثة وما وجب على العاقلة من الدية أو على القاتل بأن قتل الأب ابنه عمدا فهو في ماله في ثلاث سنين لأن الشرع ورد به مؤجلا فلا يتعمداه .
ولو قتل عشرة رجلا خطأ فعلى كل واحد عشر الدية في ثلاث سنين اعتبارا للجزء بالكل إذ هو بدل النفس وإنما يعتبر في مدة ثلاث سنين من وقت القضاء بالدية لأن الواجب الأصلي المثل والتحول إلى القيمة بالقضاء فيعتبر ابتداؤها من وقته كما في ولد المغرور ومن لم يكن من أهل الديوان فعاقلته قبيلته لأن نصرته بهم وهي المعتبرة في التعاقل وتقسم عليهم في ثلاث سنين لا يزاد الواحد على اربعة دراهم في كل سنة ويجوز أن ينقص منها فلا يؤخذ منها فلا يؤخذ من كل واحد في كل سنة إلا درهم أو درهم وثلث درهم وإن لم يكن تتسع القبيلة لذلك ضم إليهم أقرب القبائل نسبا ويضم الأقرب فالأقرب على ترتيب العصبات . الاخوة ثم بنوهم ثم الأعمام ثم بنوهم والآباء والأبناء فقيل يدخلون مع العاقلة لقربهم وقيل : لا يدخلون لأن الضم لنفي الحرج حتى لا يصيب كل واحد أكثر من ثلاثة أو أربعة وهذا إنما يتحقق عند الكثرة والآباء والأبناء لا يكثرون .
ولو كانت عاقلة الرجل أصحاب الرزق يقضى بالدية في أرزاقهم في ثلاث سنين في كل سنة الثلث .
قالوا : ويدخل القاتل مع العاقلة إذا كان من أهل الديوان أما إذا لم يكن فلا شيء عليه من الدية ولأنه هو الفاعل فلا معنى لإخراجه ومؤاخذة غيره فيكون فيما يؤدي كواحد منهم .
قالوا : وليس على النساء والذرية ممن كان له حظ في الديوان عقل لقول عمر رضي الله تعالى عنه : ( لا يعقل مع العاقلة صبي ولا امرأة ) . ولأن القتل إنما يجب على أهل النصرة لتركهم مراقبته والناس لا يتناصرون بالصبيان والنساء و لهذا لا يوضع عليهم وعلى هذا لو كان القاتل صبيا أو امرأة لا شيء عليهما من الدية بخلاف الرجل لأن وجوب جزء من الدية على القاتل باعتبار أنه احد العواقل لأنه ينصر نفسه وهذا لا يوجد فيهما ولا يعقل أهل مصر عن مصر آخر ويعقل أهل كل مصر من أهل سوادهم لانهم أتباع لأهل المصر . ومن جنىجناية من أهل المصر وليس له في الديوان عطاء وأهل البادية أقرب إليه ومسكنه المصر عقل عنه أهل الديوان من ذلك المصر ولا يشترط أن يكون بينه وبين أهل الديوان قرابة ولو كان البدوي نازلا في المصر لا مسكن له فيه يعقله أهل المصر لأن أهل العطاء لا ينصرون من لا مسكن له فيه كما أن أهل البادية لا يعقلون عن أهل المصر النازلين فيهم لأنه لا يستنصر بهم .
قز إن كان لأهل الذمة عواقل معروفة يتعاقلون بها فإذا قتل أحدهم خطأ فديتهعلى عاقلته بمنزلة المسلم لانهم التزموا أحكام الإسلام في المعاملات لاسيما في المعاني العاصمة عن الأضرار ومعنى التناصير موجود في حقهم وإن تكن لهم عاقلة معروفة فالدية في ماله في ثلاث سنين من يوم يقضى بها عليه كما في حق المسلم ولا يقل كافر عن مسلم ولا مسلم عن كافر لعدم النتاصر .
والكفار يتعاقلون فيما بينهم وإن اختلفت مللهم لأن الكفر كله ملة واحدة وذلك إذا لم تكن المعاداة فيما بينهم ظاهرة أما إذا كانت ظاهرة كاليهود والنصارى فينبغي أن لا يتعاقلون بعضهم عن بعض .
قالوا : وعاقلة المعتق قبيلة مولاه لأن النصرة بهم لقوله E ( مولى القوم منهم ) ومولى الموالاة يعقل عنه مولاه وقبيلته لأنه يتناصر به فأشبه ولاء العتاقة .
قالوا : ولا تعقل العاقلة اقل من نصف عشر الدية وتتحمل نصف العشر فصاعدا لحديث أبن عباس Bهما الموقوف عليه والمرفوع إلى النبي A ( لا تعقل العواقل عمدا ولاعبدا ولا صلحا ولا اعترافا ولا ما دون أرش الموضحة ) وارش لموضحة نصف عشر بدل النفس ولأن التحمل للتحرز عن الاجحاف ولا اجحاف في القليل وإنما و في الكثير والتقدير الفاصل عرف بالسمع وما نقص عن ذلك يكون في مال الجاني والقياس فيه التسوية بين القليل والكثير فيجب الكل على العاقلة كما ذهب إليه الشافعي أو التسوية في أن لا يجب على العاقلة شيء إلا أن الاحناف تركوه بما روي عن النبي A أنه أوجب أرش الجنين على العاقلة وهو نصف عشر بدل الرجل فما دونه يسلك به مسلك الأموال لأنه يجب بالتحكيم كما يجب ضمان المال بالتقويمن فلهذا كان في مال الجاني أخذا بالقياس .
قالوا : ولا تعقل العاقلة جناية العبد ولا مالزم بالصلح أو باعتراف الجاني لأنه لا تناصر بالعبد والإقرار والصلح لا يلزمان العاقلة لقصور الولاية عنهم إلا أن يصدقوه . لأنه ثبت بتصادقهم . والامتناع كان لحقهم ولهم ولاية على أنفسهم ومن أقر بقتل خطأ ولم يرفع إلى القاضي إلا بعد سنين قضى عليه بالدية في ماله في ثلاث سنين من يوم يقضي عليه لأن التأجيل من وقت القضاء في الثابت بالبينة ففي الثابت بالإقرار اولى ولو تصادق القاتل وولي الجناية على أن قاضي بلج كذا قضى بالدية على عاقلته بالكوفة بالبية وكذبهما العاقلة فلا شيء على العاقلة لأن تصادقهما ليس بحجة عليهم ولم يكن عليه شيء في ماله إلا أن يكون له عطاء معهم فحينئذ يلزمه بقدر حصته لأنه تبين أن الدية واجبة عليهم .
الشافعية والحنابلة - قالوا : دية الخطأ وشبه العمد في الكراف ونحوها وكذا في نفس غير القاتل نفسه وكذا الحكومات والغرة تلزم العاقلة لا الجاني لأن الجاهلية كانوا يمنعون من جنى منهم من اولياء القتيل أن يدهوا منه وياخذوا بثأرهم - فجعل الشارع بدل تلك النصرة بذل المال . وخص ذلك بالخطا وشبه العمد لكثرتهما سيما في حق من يتعاطى حمل السلاح فأعين كيلا ينتصر بالسبب الذي هو معذور فيه وإنما يلزمهم ذلك إذا كانت بينة بالخطا أو شبه العمد أو اعترف به فصدقوه .
وقالوا : وجهات تحمل الدية ثلاثة : قرابة وولاء وبيت مال لا غيرها كوزوجته ومحالفة وقرابة ليست بعصبة لأن المر كان كذلك على عهد رسول الله A و لا نسخ بعده ولأنه صلة والأولى بها الأقرباء وعصبة الجاني هم الذين يرثون بالنسب أو الولاء إذا كانوا ذكورا مكلفين وهم القرابة من قبل الأبن والمرأة والصبي وإن أيسرا لا يحملان شيئا وكذا المعتوه ويخرج من العصبة أصل الجاني من اب وإن علا وفرعه من أبن وإن سفل لانهم أبعاضه فكما لا يتحمل الجاني في الدية اعتبارا للجزء بالكل في النفي عنه والجامع كونه معذورا فلا يتحمل أبعاضه وقد روى النسائي ( لا يوخذ الرجل بجريرة أي جريرة ابنه ) وفي رواية لابي داود في خبر المرأتين السابق ( وبرأ الولد ) أي من العقل وقيس به غيره من الأبعاض وتتجب الدية على العاقلة سواء أكانت الدية قليلة أم كثيرة .
ويقدم في تحمل الدية من العصبة الأقرب فالأقرب على البعد منهم فإن لم يوف القرب بالواجب بأن بقي منه شيء فيوزع الباقي على من يليه ويقدم ممن ذكر مدل بأبوين على مدل باب كالأرث ويجب التسوية بينهما لأن النوثة لا مجخل لها في تحل العاقلة فلا تصلح للترجيح ثم بعد عصبة النسب إن فقدوا أو لم يوف ما عليهم بالواجب يقدم معتق للخبر الوارد عن النبي A ( الولاء لحمة كلحمة النسب ) فإن فقد المعتق أو لم يف ما عليهم بالواجب تقدم عصبته من نسب غير أصلهوغن علا وفرعه وإن سفل يقدم الأقرب فالأقرب لما رواه الشافعين والبهقي ( أن عمر قضى على علي رضي الله تعالى عنهما بأن يعقل عن موالي صفية بنت عبد المطلب ) لأنه أبن أخيها دون ابنها الزبير ثم ممعتق المعتق ثم عصبته كذلك ثم معتق معتق الأب وعصبته فإن لم يوجد يتحمل معتق الجد ثم عثبته كذلك إلى حيث ينتهي الأرث .
قالوا - وعتيق المرأة - الجاني - تعقله عاقلتها ولا يضرب عليها ومعتقون كمعتق واحد فيما عليه كل سنة وكل شخص من عصبة كل معتق بتحمل ما كان يحمله ذلك المعتق في حياته من نصف أو ربع .
قالوا : ولا يقل عتيق عن معتقه في الظهر كما لا يرث - وقيل : يعقل لأن العقل للنصرة والإعانة فإن فقد العاقل ممن ذكر أو وجد ولم يعرف ما عليه الواجب عقل ذوو الأرحام إن قلنا بثوريتهم . ثم يعقل بيت مال المسلمين عن الجاني المسلم كما يرثه وللحديث الوارد عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه : ( انا وارث من لا وارث له اعقل عنه وأرثه ) اخرجه أبو داود والنسائي فإن فقد بيت المال بأن لم يوجد فيه شيء أو لم ينتظم امره بحيلولة الظلمة دونه اولم يعرف بيت المال فتجب الدية كلها أو الباقي منها على الجاني في ماله في الأصح . بناء على أنها تلزمه ابتداء ثم تتحملها العاقلة . فتجب عليه الدية صيانة للحق من الضياع فلا يسقط كيلا يضيع دم المسلم هدرا وتؤجل على الجاني إذا وجبت عليه فيؤخذ منه ثلث الدية عند الحول ولو مات في أثناء الحول يحل الأجل على الأصح .
قالوا : وتؤجل على العاقلة جية نفس كاملة بإسلام وحريةن وذكورية ثلاث سنين في آخر كل سنة ثلث من الدية لما رواه البيهقي من قضاء عمر وعلي Bهما وعزاه الشافعي إلى قضاء النبي A وإنما تؤخذ في آخر كل سنة لأن المنافع كالزرع والثمار ونتاج الأبل تتكرر كل سنة فاعتبر مضها وليجتمع عنجهم ما يتوقعونه فيواسون عن تمكن .
وتؤجل دية الذمي على الصح سنة لأنها قدر ثلث دية المسلم وقيل : تؤجل ثلاثا لأنها بدل نفس محترمة وتؤجل دية امرأة مسلمة سنتين في آخر الأولى منهما ثلث من دية نفس كاملة والباقي آخر السنة الثانية وقيل : تؤجل جيتها ثلاث سنين وتحمل العاقلة الجناية على العبد من الحر في الأظهر ففي آخر كل سنة يؤخذ من قيمته قدر ثلث دية وقيل : تؤخذ كلها في ثلاث سنين لأنها بدل نفس محترمة .
ولو قتل شخص رجلين فتؤجل ديتهما على عاقلته في ثلاث سنين لأن الواجب ديتان مختلفتا وقيل : تؤجل ديتهما في ست سنين في كل سنة قدر سدس دية لأن بدل النفس الواحدة يضرب في ثلاث سنين فيزاد للأخرى مثلها .
ولو قتل شخص امخرأتين أحلت ديتهما على عاقلته في سنتين والأطراف كقطع اليدين والحكومات وأروش الجنايات تؤجل في كل سنة قدر ثلث دية كاملة فإن زاد الواجب على دية نفس كقطع اليدين والرجلين ففي ست سنين وقيل : تؤخذ كلها في سنة بالغة ما بلغت لأنها ليست بدل النفس حتى تؤجل .
قالوا : وتؤجل دية النفس من الزهوق لأنه وقت استقرار الوجوب . واجل دية غير النفس كقطع يد اندملت من ابتداء الجناية لأنها حالة الوجوب أما إذا لم يندمل بأن سرى من عضو إلى عضو كان قطع أصبعه فسرت إلى كتفه فأجل أرش الأصبع من قطعها والكف من سقوطها .
ومن مات من العاقل في أثناء سنة سقط من واجب تلك السنة ولا يؤخذ من تركته لأنها مواساة .
( يتبع . . . )