مبحث في بأخير القصاص .
الحنفية - قالوا : من جرح رجلا جراحة عمدا ووجب القصاص فلا يقتص منه حتى يبرأ من الجراحة لقوله صلوات الله وسلامه عليه : ( يستأني في الجراحات سنة ) ولأن الجراحات يعتبر فيها مآلها لا حالها لأن حكمها في الحال غير معلوم لأنها ربما تسري إلى النفس فيظهر أنه قتل وإنما يستقر الأمر بالبرء .
المالكية - قالوا : يجب تأخير القصاص فيما دون النفس لعذر كبرد شديد أو حر يخاف منه الموت لئلا يموت فيلزم أخذ نفس بدون نفس وكذلك يؤخر إقامة القصاص في الأطراف إذا كان الجاني مريضا حتى يبرأ من مرضه ويؤخر أيضا القصاص فيما دون النفس حتى يبرأ المجروح لاحتمال أن يموت فيكون الواجب القتل بقسامة وينتظر برء المجني عليه ولو تأخر البرء سنة خوف أن يؤول إلى النفس أو إلى ما تحمله العاقلة وتجب الحكومة إذا برئ على شين وإلا ففيه الأدب في العمد .
الشافعية - قالوا : يجب أن يقتص المستحق على الفور إن طلب ذلك في النفس جزما ويقتص من الجاني فيما دون النفس في الحال اعتبارا بالقصاص في النفس لأن الموجب قد تحقق فلا يعطل ولأن القصاص موجب الإتلاف فيتعجل كقيم المتلفات والتأخير أولى لاحتمال العفو ويجوز للمجني عليه أن يقطع الأطراف متوالية ولو فرقت من الجاني لأنها حقوق واجبه في الحال .
تأخير قصاص الحامل .
واتفق الأئمة : على أن المرأة الحامل إذا وجب عليها القصاص في النفس أو الأطراف إذا طلب المجني عليه حبسها فإنها تحبس حتى تضع حملها ويؤخر عنها القصاص في النفس والأطراف حتى تضع وترضع وليدها وينقضي النفاس ويستغني عنها ولدها بغيرها من امرأة أخرى أو بهيمة يحل لبنها أو فطام حولين إذا فقد ما يستغني الولد به وذلك في قصاص النفس . لأنه اجتمع فيها حقان حق الجنين وحق الولي في التعجيل ومع الصبر يحصل استيفاء الجنين فهو أولى من تفويت أحدهما .
أما في قصاص الطرف أو حد القذف فيؤجل لأن في استيفائه قد يحصل إجهاض الجنين وهو متلف له غالبا وهو بريء فلا يهلك بجريمة غيره ولا فرق بين أن يكون الجنين من حلال أو جرام ولا بين أن يحدث بعد وجوب العقوبة أو قبلها حتى أن المرتدة لو حملت من الزنا بعد الردة لا تقتل حتى تضع حملها وأما تأخيرها لارضاع اللبأ ( هو اللبن الرقيق الذي ينزل من المرأة في الأيام الأولى من الولادة ) فلأن الولد لا يعيش إلا به محققا أو غالبا مع أن التأخير يسير وأما تأخيرها للاستغناء بغيرها فلأ جل حياة الولد أيضا فلأنه إذا وجب التأخير لوضعه فوجوبه بعد وجوده وتيقن حياته أولى ويسن صبر الولي بالاستيفاء بعد وجود مرضعات يتناوبنه أو لبن شاة أو نحوه حتى توجد امرأة فاضلة مرضعة لئلا يفسد خلقه نشؤه بالألبان المختلفة ولبن البهيمة وتجبر المرضعة بالأجرة فلو وجد مراضع وامتنعن أجبر الحاكم من يرى منهن بالأجرة .
قالوا : ولو بادر المستحق وقتلها بعد انفصال الولد قبل وجود ما يغنه فمات الولد لزمه القود فيه لأنه تسبب في موته كما لو حبس رجلا ببيت ومنعه الطعام والشراب حتى مات . وإن قتلها وهي حامل ولم ينفصل حملها أو انفصل سالما ثم مات بعد ذلك فلا ضمان عليه لأنه لا يعلم أنه مات بسبب الجناية فإن انفصل ميتا فالواجب في غرة وكفارة وإن انفصل متألما ؟ ثم مات فتجب دية وكفارة لأن الظاهر أن تألمه وموته من موتها والدية والغرة تجب على العاقلة لأن الجنين لا يباشر بالجناية ولا تتيقن حياته فيكون هلاكه خطأ أو شبه عمد بخلاف الكفارة فإنها تجب في ماله خاصة وإن قتلها الولي بأمر الحاكم - كان الضمان على الإمام علما بالحمل أو جهلا أو علم الإمام وحده . لأن البحث عليه وهو الآمر به والمباشر كالآلة لصدور فعله عن رأيه وبحثه .
قالوا : والصحيح تصديقها في حملها إذا أمكن حملها عادة بغير مخيلة لقول تعالى : { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر } من آية [ 228 سورة البقرة ] أي من حمل أو حيض ومن حرم عليه كتمان شيء وجب قبوله إذا أظهره كالشهادة لأن الرسول صلوات الله وسلامه عليه قبل قول الغامدية في الحمل ولم يطلب منها البينة ولا حلف يمين أما إذا لم يمكن حملها عادة كآيسة مثلا فلا تصدق في ادعاء الحمل لأن الواقع يكذبها .
وقيل : لا تصدق في اعترافها بالحمل لأن الأصل عدم الحمل وهي متهمة بتأخير الواجب فلا بد من بينة تقوم على ظهور مخايله أو إقرار المستحق .
وعلى القول الأول هل تحلف أو لا ؟ قولان أرجحهما الأول . لأن لها غرضا في التأخير