مبحث ما تجب فيه الحكومة .
اتفق الأئمة رحمهم الله تعالى : على أن الشيء الذي يوجب مالا . لا مقدر فيه من الدية ولم تعرف نسبته من مقدر مثل الضلع والصدر والفخذ والزند وغيرها أما إذا عرفت نسبته منه كأن كان بقرب موضحة أو جائفة فيجب أكثر من قسطه وحكومة وهي جز من الدية نسبته إلى دية النفس في الأصح وقيل : نسبته إلى عضو الجناية نسبة نقص الجناية من قيمة المجني عليه لو كان رقيقا بصفاته التي هو عليها وذلك مثل جرح يده فيقال : كم قيمة المجني عليه بصفاته التي هو عليها بغير جناية لو كان عبدا رقيقا ؟ فإذا قيل : مائة دينار فيقال : كم قيمته بعد حصول الجناية عليه ؟ فإذا قيل : تسعون فيكون التفاوت العشر فيجب في هذه الحالة عشر دية النفس وهو عشر من الإبل إذا كان المجني عليه حرا ذكرا مسلما لأن الجملة مضمونة بالدية المقدرة من الشارع الحكيم فتضمن الأجزاء بجزء منها كما في نظيره من عيب المبيع .
والقول الثاني : أن تنسب إلى عضو الجناية لا إلى دية النفس فيجب في هذه الصورة عشر دية اليد التي وقعت عليها الجناية وهو خمس من الإبل فإن كانت الجناية على إصبع واحد وجب بعير أو الجناية وقعت على أنملة من إصبع وجب ثلث بعير في غير الإبهام ويقاس على ذلك ما أشبهه من القضايا .
وللحاجة في معرفة الحكومة إلى تقدير الرق .
قال الأئمة : العبد اصل الحر في الجنايات التي لا يتقدر أرشها كما أن الحر أصل العبد في الجنايات التي قدر الشارع أرشها وتجب الحكومة إبلا كالدية أو تجب نقدا فطلا من الأمرين جائز حسب الظروف المناسبة للمتقاضين لأنه يوصل إلى الغرض المطلوب وهو دفع الضمان وتعويض المجني عليه عما أصابه ومحل الخلاف إذا كانت الجناية على عضو له ارش مقدر فإن كانت الجناية على عضو ليس له أرش مقدر مثل الصدر أو الفخذ أو نحو ذلك اعتبرت الحكومة من دية النفس قطعا وتقدر لحية امرأة أزيلت ففسد منبتها لحية عبد كبير يتزين بها ومثلها الخنثى ولو قلع سنا أو قطع إصبعا زائدة ولم ينقص بذلك شيء قدرت زائدة لا أصلية خلفها ويقوم له المجني عليه منصفا بذلكن ثم يقوم مقطوع الزائد فيظهر التفاوت بذلك لأن الزائدة تشد الوجه ويحصل بها نوع جمال ويستثنى من اعتبار النسبة لو قطع أنملة لها طرف زائد فيجب فيها مع دية أنملة حكومة يقدرها القاضي باجتهاده ولا يعتبر النسبة لعدم إمكانها فإن كانت الحكومة لأجل طرف له أرش مقدر كاليد والرجل مثلا اشترط فيها أن لا تبلغ تلك الحكومة مقدر الطرف لئلا تكون الجناية على العضو مع بقائه مضمونة بما يضمن به العضو نفسه فينقص حكومة الأنملة بجرحها أو قطع ظفرها عن يدها وحكومة جراحة الإصبع بطوله عن ديته ولا يبلغ بحكومة ما دون الجائفة من الجراحات على البطن أو نحوه أرش الجائفة فإن بلغته نقص القاضي منه شيئا باجتهاده لئلا يلزم المحذور السابع ولا يكفي أقل متمول كما قاله الإمام الشافعي C تعالى . أو كانت الحكومة لطرف لا تقدير فيه ولا يتبع مقدرا كفخذ وساعد ليد وظهر وكف يدن فالشرط أن لا تبلغ حكومته دية نفس وهو معلوم إنها لا تصل إلى ذلك لأن الكل أكثر من الجزء بل المراد أن لا يصير بلوغها أرش عضو مقدر وإن زادت عليه فإن تبع مقدرا كالكف فإنه يتبع الأصابع فالشرط فيه أن لا يبلغ ذلك دية المقدر وإن بلغ بحكومة الكف دية إصبع واحد جاز لأن منفعتها رفعا واحتواشا تزيد على منفعة إصبع كما أن حكومة اليد الشلاء لا تبلغ دية اليد السلمية ويجوز أن تبلغ دية الإصبع ويجوز أن تزيد عليها وإنما لم يجعل الساعد كالكف حتى لا يبلغ بحكومة جرحه دية الأصابع لأن الكف هي التي تتبع الأصابع لقربها دون الساعد لبعده عن الأصابع ولهذا لو قطع من الكوع لزمه ما يلزمه في لفظ الأصابع ولو قطعت اليد من المرفق لزمه مع نصف الدية حكومة الساعد .
قالوا : ويقوم لمعرفة الحكومة المجني عليه بغرض رقه لكن بعد اندمال الجروح لا قبله لأن الجراحة قد تسري إلى النفس فتزهقها أو تسري إلى إتلاف ما يكون واجبه مقدرا من الأعضاء فيكون ذلك هو الواجب لا الحكومة . فإن لم يبق بعد اندمال الجروح نقص في المنفعة ولا نقص في الجمال ولا تأثرت به القيمة اعتبر فيه أقرب نقص من حالات نقص فيه إلى الاندمال وهكذا وذلك لئلا تحيط الجناية على المعصوم فإذا لم يظهر النقص إلا حال سيلان الدم اعتبرنا القيمة حينئذ واعتبرنا الجراحة دامية .
وأما إذا كانت الجراحة خفيفة لا تؤثر في حال سيلان الدم فإنه يعزر الجاني إلحاقا لهما باللطمة والضربة التي لم يبق لها أثر للضرورة لانسداد باب التقويم الذي هو عمدة الحكومة .
وقيل : يقدر النقص المذكور قاض باجتهاده لئلا تكون الجناية إن غير غرم .
وقيل : لا غرم حينئذ بل الواجب التعزير كالضربة والصفعة التي لم يبق لها أثر والجرح المقدر أرشه كموضحة يبتعه الشين الكائن حواليه ولا يفرد بحكومة والجرح الذي لا يتقدر أرشه كدامية يقدر الشين حواليه بحكومة عن حكومة الجرح لضعف الحكومة عن الاستتباع ا ه .
المالكية رحمهم الله - قالوا : يشترط في القصاص من جراح الجسد غير الرأس اتحاد .
المحل . فلا يجوز أن يقتص من جرح عضو أيمن في عضو أيسر ولا عكسه ولا يجوز أن تقطع سباية مثلا بإبهام ولو كان المجني عليه طويلا وعضو الجاني قصيرا فلا يكمل بقية الجرح من عضوه الثاني .
ويقتص من الطبيب الذي يباشر القصاص من الجاني إذا زاد على المساحة المطلوبة عمدا فيقتص منه بقدر ما زاد أما لو نقص عن المطلوب عمدا أو خطأ فلا يقتص ثانيا فإن مات المقتص منه من اثر القصاص لتعديه ما أمر به .
وإذا لم يتحد المحل أو لم يتعمد الطبيب الزيادة بل أخطأ تجب الدية على الجاني فإذا قطع الجاني خنصرا مثلا ولا خنصر له فلا يجب القصاص لعدم اتحاد المحل وتعين العقل فإن كانت الجناية عمدا أو أقل من ثلث الدية وجبت في مال الجاني وإن كانت الجناية خطأ ولكنها أكثر من ثلث الدية فتجب الدية على العاقلة وذلك كحدقة عين أعمى جنى عليها صاحب عين سالمة واقتلعها فإن السالمة لا تؤخذ بالعين التالفة لعدم المماثلة فلا يجب القصاص ولا تجب نصف الدية بل يلزمه حكومة عدل بالاجتهاد في قيمة خسارة العين العمياء .
أما إذا كان الجاني رجلا اعمى وفقأ عين رجل سليمة فلا يجب القصاص فإنه لا تؤخذ السليمة بالعمياء بل تجب نصف الدية على الجاني ولو كانت الجناية عمدا وكذلك لسان الأبكم الذي لا يتكلم لا يقطع بالناطق ولا عكسه بل يجب في اللسان الناطق الدية وتجب في اللسان الأبكم حكومة كما قيل في العين العمياء والعين البصيرة .
ولا قصاص في ضربة على الخد إذا لم ينشأ عنها جرح ولا ذهاب منفعة ولا عقل منها ولا قصاص من ضربة بيد أو رجل بغير وجه كصفع بقفا لم ينشأ عنها جرح ولا ذهاب منفعة كاللطمة ولا قصاص من إزالة شعر اللحية ولا من إزالة شفر عين بضم الشين المعجمة وسكون الفاء وهو الهدب ولا من إزالة شعر حاجب فعمد هذه المذكورات كالخطأ عدم القصاص والعقل وإنما يجب الأدب في عمدها دون خطئها وتجب حكومة في شعر اللحية وشعر العين وشعر الحاجب إن لم ينبت كما كان اولا لأن الأهداب والحواجب ليست أعضاء لها منفعة ولا فعل بين ضروري في الخلقة أما إذا نشأ من هذه الضربات جرح أو ذهاب منفعة فإنه يجب فيها القصاص . أما الضرب بالسوط فيجب في عمدها القصاص وإن لم ينشأ عنه جرح ولا ذهاب منفعة لأن الضرب بالسوط عهد للأدب والحدود وليس فيه متألف في العادة .
ولا قصاص أن عظم الخطر في الجراحات التي في الجسد غير المثقلة والآمة فإنه لاقصاص فيها من غير قيد بعظم الخطر لأن شأنهما عظم الخطر فلا قصاص في كسر عظم الصدر وكسر عظم الصلب ورض الأنثيين وفيها العقل كاملا بعد البرء وذلك بخلاف ما إذا قطعهما أو جرحهما فإنه يجب القصاص على الجاني لأنه ليس من المتالف .
وأن جرحه جرحا في القصاص كموضحة مثلا فذهب بسببه نمو بصره أو شلت يده اقتص منه ويجب أن يفعل بالجاني بعد تمام برء المجني عليه مثل ما فعل من الجناية فإن حصل للجاني مثل الذاهب من المجني عليه أو زاد الذاهب من الجاني بأن ذهب بسبب الموضحة شيء آخر مع الذاهب بأن أوضح فذهب بصره وسمعه فلا كلام لذلك الجاني الذي اقتص منه لأنه ظالم يستحق القصاص بالوجه الذي فعل به والزيادة أمر من الله تعالى وإذا لم يحصل للجاني مثل الذاهب من المجني عليه بأن لم يحصل شيء أصلا أو حصل غيره فيجب عقل ما ذهب من المجني عليه في مال الجاني إذا كان الجرح عمدا أو العاقلة إن كان خطأ كأن ضربه بقضيب مما لا قصاص فيه أو لطمه على خده أو قفاه لأن الضرب لا يقتص فيه إنما يقتص من الجروح لقول تعالى { والجروح قصاص } فذهب بصر المجني عليه من أثر الضرب فإنه لا يضرب بل يجب عليه العقل إلا أن يمكن الاذهاب من الجاني بفعل فيه يذهب منه مثل ما أذهب بما لا قصاص فيه كحيلة تذهب بصره بلا ضرب فإنه يفعل به .
وإذا قطع بعد الجناية عضو رجل قاطع لعضو غيره عمدا وسقط بآفة سماوية أو قطع عضوه بسبب سرقة أو قطع بقصاص لغير المجني عليه أولا فلا شيء للمحني عليه لا قصاص ولا دية لأنه إنما تعلق حقه بالعضو المماثل وقد ذهب وكذا لو مات القاطع فلا شيء على الورثة' بخلاف مقطوع العضو قبل حدوث الجناية فتجب عليه الدية وفي القصاص يجوز أن يؤخذ من الجاني عضو قوي بعضو ضعيف جنى عليه فإذا جنى صاحب عين ضعيفة الأبصار خلقة أو من كبر صاحبها فإن السليمة تقلع بالضعيفة ما لم يكن الضعف جدا وإلا فإن كان العضو شديد الضعف فإنه تجب الدية وإن فقأ سالم العينين عين أعور فإنه يخير المجني عليه بين فقء العين المماثلة من الجاني وبين اخذ دية وإن فقأ سالم العينين عين أعور فإنه يخير المجني عليه بين فقء العين المماثلة من الجاني وبين أخذ دية كاملة من مال الجاني أي دية غين نفسه وإذا كان المشهور في المذهب تحتم القصاص في العمد وإنما وجب التخيير لعدم مساواة غين الجاني والمجني عليه في الدية لأن دية عين المجني عليه ألف دينار بخلاف عين الجاني فديتها خمسمائة دينار فلو ألزمناه بالقصاص لكان أخذ الأدنى في الأعلى وهو ظلم له فيجب التخيير وإن فقأ أعور من سالم عينا مماثلة عين الجاني السالمة فيجوز للمجني عليه سالم العينين القصاص من الأعور الجاني بفقء عينه السالمة فيصير أعمى أو ترك القصاص ويأخذ من الجاني دية عينه وهي ألف دينار على أهل الذهب لتعين القصاص بالمماثلة وصارت الثانية عين أعور فيها دية كاملة لأنه ينتفع بالواحدة انتفاع صاحب العينين .
وإن فقأ الأعور من السالم غير المماثلة لعينه بأن فقأ من السالم المماثلة للعوراء فإنه يجب نصف دية فقط في مال الجاني ولا يجوز للمجني عليه أن يقتص منه لعدم المحل المماثل وإن فقأ العور عيني السالم عمدا في مرة أو في مرتين وساء فقأ التي ليس له مثلها أولا أو ثانيا على الرجح فيجب القود للمجني عليه بأن يفقأ من الجاني العين المماثلة فيصير أعمى مثله ويأخذ من الجاني نصف الدية بدل العين التي ليس لها ممثلة ولم يخير سالم العينين في المماثلة بحيث يكون له القصاص أو أخذ الدية لئلا يلزم عليه أخذ دية ونصف حيث اختار الدية في العينين وهو خلاف ما ورد عن الشارع صلوات الله وسلامه عليه