مبحث من قتل ثم لجأ إلى الحرم .
الشافعية قالوا : يقتص المستحق على الفور في النفس وكذلك في الأطراف على المذهب لأن القصاص موجب الاتلاف فيتعجل كقيم المتلفات والتأخير لاحتمال العفو .
قالوا : ويقتص في الحرم لأن الحرم لا يمنع من القصاص كقتل الحية والعقرب داخل الاحرم وسواء التجأ إليه أم لا لأن النبي A لما دخل مكة عامم الفتح وسمع به عبد الله بن خطل التميمي الذي ارتد بعد إسلامه وكان يهجو النبي A في شعره ويلقنه لجاريتيه المغنيتين فتتغنيان به فخاف من الرسول وتعلق بأستار الكعبة ليستجير بها وعند طواف النبي A بها أخبر بحالته فقال : ( اقتلوه ) فإن الكعبية لا تعيذ عاصيا ولا تمنع من إقامة حد واجب فقتل وكذلك الحويرث بن نقيد فإنه كان يؤذي النبي A بهجائه فقتله الإمام على رضي الله تبارك وتعالى عنه بمكة المكرمة .
وكذلك المقيدس بن صبابة الكندي عبد أن ارتد ورجع إلى مكة فامر النبي A بقتله واهدر دمه فقتله ابن عمه نميلة بن عبد الله الليثي وهو متعلق بأستار الكعبة وقيل : بمحل آخر ولأن القصاص على القور فلا يؤخر .
فلو التجأ الجاني إلى الكعبة أو المسجد الحرام أو غيره من المساجد أو إلى ملك إنسان فيخرج منه ثم يقتل صيانة للمسجد ولأنه يمتنع استعمال ملك الغير بغير غذنه فإن هذا التأخير يسير وخوفا من تلوث المسجد الحرام أو المساحمد الأخرى فيخرج منها وكذا يقتل لو التجأ الجاني إلى مقابر المسلمين ولم يمكن قتله إلا بإراقة الدم عليها وإذا لم يخرج الجاني من الحرم ومكث فيه جاز إقامة القصاص عليه وقتله فيه فإن حرمة دم الآدمي أقوى من حرمة البيت .
المالكية قالوا : لو قتل شخص إنسانا في الحل ثم دخل الحرم بعد ارتكاب جنايته فلا يؤخر بل يجب إخراجه من الحرم ويقام عليه الحد خارج الحرم ولو كان الجاني محرما ولا ينتظر لإتمامه ولا يجوز إقامة القصاص في الحرم عليه لئلا يؤدي إلى تنجسه بالدماء وسواء فعل موجب القصاص في داخل الحرم أم فعله خارجه ثم لجأ إليه ليهرب من تنفيذ القصاص .
وأما قوله تعالى : { ومن دخله كان آمنا } فهو إخبار عما كان عليه الناس في الجاهلية كما قال الحسن البصري وغيره : كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة ودخل الحرم فيلقاه ابن القتول فلا يهيجه حتى يخرج .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو يحيى التميمي عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : { ومن دخله كان آمنا } قال : ( من عاذ بالبيت اعاذه البيت ولكن لا يؤوى ولا يطعم ولا سقى فإذا خرج اخذ بذنبه ) .
وروي في الصحيحين والفظ لمسلمعن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة : ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولا قال قال به رسول الله A الغد من يوم الفتح سمعته اذناي ووعاه قلبين وأبصرته عيناي حين تكلم به أنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال : ( مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما أو يعيضد بها شجرا فإن أحد ترخص بقتال رسول الله A فيها فقولوا له إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالآمس فليبلغ الشاهد الغائب ) فقيل لأبي شريح ما قاله لك عمرو ؟ قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح : إن الحم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بدم ولا فارا بجزية وقيل : الجملة إنشائية معنى أي آمنا من القتل والظلم إلا بموجب شرعي وهذا هو الإثم الذي ذكره الله تعالى بقوله : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } . آية 25 من سور الحج .
الحنفية رحمهم الله تعالى قالوا : إذا قتل رجل إنسانا عمدا خارج الحرم ثم لجأ إليه ليفر من القصاص وأقام بالحرم أو وجب القتل عليه ردة أو زنا وهو محصن أو بسبب خروجه على جماعة المسلمين ثم لجأ إلى الحرم بمكة المكرمة فلا يجب قتله ما دام في الحرم لحرمة القتل في الحرم لقول تعالى : { ومن دخله كان آمنا } يعنى حرم مكة إذا دخله الخائف يأمن من كل سوء فمن عاذ بالبيت أعاذه البيت وورد في الصحيحين عن رسول الله A قال يوم فتح مكة : ( إن هذا البلد حرم الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وأنه لم يحل القتل فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا في ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها فقال العباس : يا رسول الله إلا الأذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم فقال : ( إلا الادخر ) وقد ورد في تأمين من دخل الحرم عدة آيات منها قوله تعالى { واذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا } ومنه قوله تعالى { واذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا } آيتي 125 ، 126 من سور البقرة وقال تعالى : { الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } آية 4 من سورة قريش فظاهر الآية الكريمة الإخبار عن كون من دخله آمنا ولكن لا يمكن حمله عليه إذ قد لا يصير آمنا فيقع الخلف في الخبر فودب حمله على الأمر أي آمنوا من دخل الحرم وترك العمل به في الجنايات التي دون النفس لأن الضرر فيها أخف من قتل النفس وفيما إذا وجب على الجاني القصاص لجناية ارتكبها داخل الحرم فإنه يجوز أن يقتل في الحرم في هذه الحالة لأنه هو الذي هتك حرمة الحرم فلا يحترم دمه أما إذا ارتكب الجناية خارج الحرم ثم التجأ إليه فلا يستوفي فيه بل يجب أن يضيق عليه فيمنع من الطعام والشراب والكلام والمعاملة حتى يخرج من لحرم فيستوفى منه القصاص ويقتل أو يموت داخل الحرم بالجوع والصد وذلك تعظيما لحرمة البيت الحرام . الحنابلة قالوا : لا يستوفى من الملتجىء إلى الحرم قصاصا مطلقا سواء ارتكب الجناية خارج الحرم والتجأ إليه واحتمى به أو ارتكب جنايته داخل الحرم واعتصم به وسواء كان القصاص في النفس أو الأطراف ولا يضيق عليه حتى يخرج من الحرم أو يموت فإن خرج من الحرم قتل بذنبه ونفذ عليه القصاص الواجب عليه وإلا ترك وشأنه في الحرم . وذلك لنص الآيات الواردة في في تأمين من دخل الحرم قال تعالى : { ومن دخله كان آمنا } تأكيدا لفضيلة الحرم واحتراما لقدسيته لشدة حرمة الحرم في الكتاب والسنة الذي هو حضرة الله تعالى الخالصة فيحمل هنا على حال الحاكم الذي غلبت عليه هيبة المولى D . وهيبة بيته الحرام فانطوت فيها إقامة حدوده حرمة له فأخر القصاص مدة عن الجاني حتى يخرج من الحرم