وقد ذكر العلماء أنه لا ينبغي تعيير أهل المعاصي ومواجهتهم باللعن وإنما ينبغي أن يلعن في الجملة من فعل فعلهم ويكون ذلك رادعا وزاجرا عن ارتكاب شيء منها وحتى يفتح أمام المذنب باب التوبة والقبول فإن من قبل الله توبته يكتبها له طاعة من الطاعات ويجعلها محاءة للذنوب .
وقد روي أن سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه افتقد رجلا ذا بأس شديد من أهل الشام فقيل له : تتابع في هذا الشراب - أي شرب الخمر - فقال سيدنا عمر عمر لكاتبه : اكتب من عمر إلى فلان سلام عليك وأنا أحمد اليك الله الذي لا إله إلا هو بسم الله الرحمن الرحيم : { حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غفر الذنب قابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير } ثم ختم الكتاب وقال لرسوله : لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول : قد وعدني الله أن يغفر لي وحذرني عقابه فلم يبرح يؤددها حتى بكى ثم نزع فأحسن النزوع وحسنت توبته فلما بلغ سيدنا عمر أمره قال : هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاكم قد زل زلة فسددوه ووقفوه وادعوا الله أن يتوب عليه ولا تكونوا أعوانا للشياطين عليه .
ولا شك أن هذه سياسة حكيمة من سيدنا عمر بن الخطاب أمير المؤمنين في معالجة المنحرفين والمرتكبين .
الخمر ملعونة .
إن الخمر ملعونة على لسان رسول الله A بل لعن كل من له صلة بالخمر من قريب أو بعيد . ومعنى اللعن - هو الطرد من رحمة الله تعالى والحرمان من رضوانه D وذلك نهاية الشقاوة والحرمان فقد روى ابن ماجة والترمذي عن نس بن مالك Bه قال : ( لعن رسول الله A في الخمر عشرة : عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وأكل ثمنها والمشتري لها والمشترى له ) وقال A : ( أتاني جبريل فقال : يا محمد إن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها والمحمولة إليه وبائعها ومبتاعها وساقيها ومسقاها ) وهو عن ابن عباس رواه أحمد بإسناد صحيح وابن حبان في صحيحه والحاكم وروى أبو داود وابن ماجة عن عمر حديثا بمعناه وليس فيه ذكر جبريل .
والعلماء يقولون : إن رسول الله A وإن كان قد نهى عن لعنة المسلم الذي أقر بالشرب وأقام عليه الحد . إلا أنه أجاز أن يلعن الناس المدمن للخمر الذي لا يتوب منها بل يداوم عليها سواء لعن في الجملة مع غيره أو لعن بالتعين لأنه مستهتر ماجن فأجازوا لعنه عسى أن يزجر ويلوم نفسه ويرجع عن غيه ويتوب عن ذنبه . ويقلع عن تعاطي الخمر مخافة ملامة الناس . أما غير المدمن فلا يجوز لعنه وتعييره . إذا أقيم عليه الحد لأنه كفارة له .
حكم شرب البيرة والحشيش والمخدرات .
لقد زعم بعض الفساق أن البيرة حلال شربها لأنها من ماء الشعير وكذلك نقيع البلح " العرق " وخمير خبز الشعير " البوظة " ونبات " القات " و " الحشيش " و " الفتكة " . . . زعموا أن هذه المشروبات وغيرها من المخدرات حلال شربه بحجة أن هذه المشروبات لم تكن في عصر رسول الله A ولم يرد نص في تحريمها .
وقد اجتمعت كلمة العلماء على تحريم هذه المشروبات وغيرها من المخدرات المحدثة مثل الحشيش والأفيون وغيرهما .
وقد صدرت فتوى من فضيلة الأستاذ الأكبر مفتي الديار المصرية نشرت في مجة الأزهر في عدد شعبان سنة 1360 ه نلخصها هنما لعموم الفائدة حتى ينتفع بها الجميع ويقتنع بها من في قلبه شك أو ريب في حرمتها فنقول : إنه لا يشك شاك ولا يرتاب مرتاب في أن تعاطي هذه المواد حرام لأنها تؤدي إلى مضار جسيمة ومفاسد كثيرة فهي تفسد العقل وتفتك بالبدن إلى غير ذلك من المضار والمفاسد الخطيرة . فلا يمكن أن تأذن الشريعة بتعاطيها مع تحريمها لما هو أقل منها مفسدة وأخف ضررا ولذك قال بعض علماء الحنفية : ( إن من قال بحل الحشيش زنديق مبتدع ) . وهذا منه دلالة على ظهور حرمتها ووضوحها وأنه لما كان الكثير من المواد يخامر العقل ويعطيه ويحدث من الطرب واللذة وعند متناوليها ما يدعوهم إلى تعاطيها والمداومة عليها كان داخلة فيما حرمه الله تعالى في كتابه العزيز وعلى لسان رسول الله A من الخمر والسكر .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه ( السياسة الشرعية ) ما خلاصته : إن الحشيشة حرام يحد متناولها كما يحد شارب الخمر وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج حتى يصير في الرجل تخنث ودياثة وغير ذلك من الفساد وأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهي داخلة فيما حرمه الله ورسوله من الخمر المسكر لفظا أو معنى - قال ابو موسى الأشعري Bه : يارسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن : البتع وهو العسل ينبذ حتى يشتد والمزر وهومن الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد قال : وكان رسول الله A قد اعطي جوامع الكلم بخواتمه فقال : ( كل مسكر حرام ) رواه البخاري ومسلم .
وعن النعمان بن بشير Bه قال : قال رسول الله A : ( إن من الحنطة خمرا ومن الزبيب خمرا ومن التمر خمرا ومن العسل خمرا وأنا أنهي عن كل مسكر ) رواه أبو داود وغيره . وعن ابن عمر Bهما أن النبي A قال : ( كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ) وفي رواية ( كل مسكر خمر وكل خمر حرام ) رواهما مسلم .
وعن عائشة Bها قالت : قال رسول الله A : ( كل مسكر حرام وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام ) قال الترمذي : حديث حسن - والفرق مكيال يسع ستة عشر رطلا ومعناه ما أسكر كثيره فقليله حرام .
وروى أهل السنن عن النبي A من وجوه أنه قال : ( ما أسكر كثيره فقليله حرام ) وصححه الحفاظ وعن جابر رضي الله تعالى عنه ( أن رجلا سأل النبي A عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة - يقال له : أمسكر هو ؟ قال : نعم فقال كل مسكر حرام إن على الله عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال : قالوا : يا رسول الله ما طينة الخبال ؟ قال : عرق أهل النار أو عصارة أهل النار ) رواه مسلم .
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي A : ( كل مخمر وكل مسكر حرام ) رواه أبو داود .
والمخمر ما يغطي العقل والأحاديث في هذا الباب كثيرة مستفيضة . جمع رسول الله A بما أوتيه من جوامع الكلم كل ما غطى العقل وأسكر ولم يفرق بين نوع ونوع ولا عبرة لكونه قد تذاب بالماء وتشرب . فالخمر يشرب ويؤكل والحشيشة تؤكل وتشرب وكل ذلك حرام وحدوثها بعد عصر النبي A والأئمة لم يمنع من دخولها في عموم كلام رسول الله عن المسكر فقد حدثت أشربة مسكرة بعد النبي A وكلها داخلة في الكلم الجوامع من الكتاب والسنة .
وقد تكلم الإمام ابن تيمية C عن الحشيشة غير مرة في فتاوة فقال ما خلاصته : ( هذه الحشيشة الملعونة هي وآكلوها ومستحلوها الموجبة لسخط الله تعالى وسخط رسوله وسخط عباده المؤمنين المعرضة صاحبها لعقوبة الله تشتمل على ضرر في دين المرء وخلقه وطبعه وتفسد الأمزجة حتى جعلت خلفا كثيرا مجانين وتورث من مهانة آكلها ودناوة نفسه وغير ذلك ما لا تورث الخمر ففيها من المفاسد ما ليس في الخمر فهي بالتحريم أولى وقد أجمع المسلمون على أن السكر منها حرام ومن استحل ذلك وزعم أنه حلال فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتدا لا يصلي عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين وإن القليل منها حرام أيضا بالنصوص الدالة على تحريم الخمر وتحريم كل مسكر ) وقد تبعه تلميذه الإمام المحقق ابن القيم C فقال في كتابه ( زاد المعاد ) ما خلاصته : .
( إن الخمر يدخل فيها كل مسكر مائعا كان أو جامدا عصيرا أو مطبوخا فيدخل فيها لقمة الفسق والفجور - ويعني بها الحشيشة - لأن هذا كله خمر بنص رسول الله A الصريح الذي لا مطعن في سنده ولا إجمال في متنه . إذ صح عنه قوله : ( كل مسكر خمر ) وصح عن أصحابه Bهم الذين هم أعلم الأمة بخطابه ومراده بأن الخمر ما خامر العقل على أنه لو لم يتناول لفظه A ( كل مسكر ) لكان القياس الصحيح الصريح الذي استولى فيه الأصل والفرع من كل وجه حاكما بالستوية بين أنواع المسكر فالتفرقة بين نوع ونوع تفريق بين متماثلين من جميع الوجوه ) .
وقال صاحب ( سبل السلام شرح بلوغ المرام ) : ( إنه يحرم ما أسكر من أي شيء وإن لم يكن مشروبا كالحشيشة ) .
ونقل عن الحافظ ابن حجر ( أن من قال : إن الحشيشة لا تسكر وإنما هي مخدر سكاير فإنها تحدث ما تحدثه الخمر من الطرب والنشوة ) .
ونقل عن ابن البيطار من الأطباء : ( إن الحشيشة التي توجد في مصر مسكرة جدا إذا تناول الإنسان منها قدر درهم أو درهمين ) .
وقبائح خصالها كثيرة وقد عد منها بعض العلماء مائة وعشرين مضرة دينية ودنيوية وقبائح خصالها موجودة في الأفيون وفيه زيادة مضار .
وما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما من العلماء هو الحق الذي يسوق إليه الدليل وتطمئن به النفس وإذ قد تبين أن النصوص من الكتاب والسنة تتناول الحشيش فهي تتناول أيضا الأفيون الذي بين العلماء أنه أكثر ضررا ويترتب عليه من المفاسد ما يزيد على مفاسد الحشيش . وتتناول أيضا ساءر المخدرات التي حدثت ولم تكن معروفة من قيل إذ هي كالخمر من العنب مثلا في أنها تخامر العقل وتغطيه وفيها ما في هذه الخمر من مفاسد ومضار وتزيد عليها بمفاسد أخرى كما في الحشيش بل أفظع وأعظم كما هو مشاهد ومعلوم ضرورته ولا يمكن أن تبيح الشريعة الإسلامية شيئا من المخدرات .
ومن قال بحل شيء منها فهو من الذي يفترون على الله الكذب أو يقولون على الله ما لا يعلمون . وقد سبق أن قلنا أن بعض علماء الحنفية قال : ( إن من قال بحل الحشيشة زنديق مبتدع ) وإذا كان من يقول بحل الحشيشة زنديقا مبتدعا . فالقائل بحل شيء نت هذه المخدرات الحادثة التي هي أكثر ضررا وأكبر فسادا زنديق مبتدع أيضا . بل أولى بأن يكون كذلك .
وكيف تبيح الشريعة الإسلامية شيئا من هذه المخدرات التي يلحق ضررها البليغ بالأمة أفرادا وجماعات ماديا وصحيا وأدبيا حيث أن مبنى الشريعة الإسلامية على جلب المصالح الخاصة أو الراجحة وعلى درء المفاسد والمضار كذلك ؟ وكيف يحرم الله سبحانه وتعالى العليم الحكيم الخمر من العنب مثلا كثيرها وقليلها . لما فيها من المفسدة ولأن قليلها داع إلى كثيرها وذريعة إليه ويبيح من المخدرات ما فيه هذه المفسدة ويزيد عليها بما هو أعظم منها وأكثر ضررا للبدن والعقل والدين والخلق والمزاج ؟ . هذا الحكم لا يقوله إلا رجل جاهل بالدين الإسلامي أو زنديق مبتدع كما سبق القول به . فتعاطي هذه المخدرات على أي وجه من وجوه تعاطي من أكل أو شرب أو شم أو احتقان حرام بإجماع الأمة . اه .
إن أعداء الإسلام يروجون الحشيش وغيره من المخدرات بقصد إضعاف شباب الأمة الإسلامية وضياع مالها ورجولتها وقتل شهامتها وإفساد عقول رجالها حتى تستمر في التأخر عن مصاف الأمم المتقدمة ويتغلب عليها الأجانب ويقهرها الأعداء ويستعمرون بلادهم . كما تفعل إسرائيل من ترويج الحشيش والأفيون بين البلاد العربية بقصد هلاكها .
وقد أكثر من الكلام في هذا الموضوع لما سئلت كثيرا عن حكم الحشيش والبيرة والوسكي والفنكي وغيرها ولما رأيت من إنتشار هذه المخدرات بين كثير من الأوساط التي جرت عليهم ضياع الصحة وفساد الأسرة وتبدد الثروة . ولما تبذله الحكومة من مجهود جبار في محاربة المهربين والحشاشين ولو أن هذه الأمور الطائلة التي تنفقها الحكومة في هذا الصدد صرفت في مشاريع خيرية ومصانع وشركات لعادت على الأمة بالخير الكثير والفائدة العظمى . ولو أن الناس فهموا هذا الحكم الشرعي ووعوده وعملوا به وأعرضوا عن تعاطي هذه المخدرات وتلك المسكرات لحفظنا على الأمة شبابها وقوتها وعزمها وكرامتها وحريتها واستقلالها ولوأنصفت الحكومات الإسلامية لأصدرت تشريعا مشددا وحكما رادعا قاسيا حتى يردع كثيرا من الذي يتعاطون هذه المهلكات ويفسدون عقولهم وأجسامهم وأموالهم ولو أدى ذلك إلى إصدار حكم الإعدام على المهربين وكبار المشتغلين بتجارته .
حكم الاتجار بالمخدرات .
لقد اشتغل بعض المسلمين بتجارة المخدرات من الخمور والحشيش والأفيون والكوكايين لما تدر عليهم تجارة هذه الأشياء من الربح الطائل من أسهل الطرق ويصلون إلى الغنى الفاحش في أقرب وقت . مع أن الشريعة الإسلامية تحرم هذه الأرباح وتعتبر أن عيشة أصحابها من الحرام .
وقد ورد عن رسول الله A أحاديث كثيرة في تحريم بيع الخمور . منها ماروى البخاري ومسلم وعن جابر Bه أن النبي A قال : ( إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ) .
( يتبع . . . )