وقد رد الدليل الأول بأن الذي قال : ان الجارية ترد بقول امرأة : انها حامل قول ضعيف لمحمد . ولأبي يوسف فيه روايتان : أظهرهما أنه إذا أخبرت امرأة بأن الجارية حامل صح للمشتري أن يخاصم البائع فيحلف البائع على أنها ليس بها حمل وقت البيع وبذلك لا ترد عليه وإذا نكل عن اليمين فإنها ترد عليه لنكوله . أما إذا لم يظهر بها حمل ولم تقل امرأة : انها حامل فليس للمشتري الحق في الخصومة مع البائع وحاصل ذلك أن شهادة المرأة التي تعرف الحبل تجعل للمشتري الحق في الخصومة مع البائع فقط ولا تجعل له الحق في الرد فظهور الحبل لم يترتب عليه حكم الرد حتى يقاس عليه الحكم بصحة الرجعة . أما الدليل الثاني فقد رد أيضا بأنهم لم يقولوا : ان النسب يثبت بظهور الحمل وإنما الذي قالوه : ان النسب يثبت بالفراش إذا كانت الزوجة غير مطلقة ويثبت بالولادة إذا كانت مطلقة والولادة تثبت بقول القابلة - الداية - مثلا إذا طلق الرجل امرأته الحامل طلاقا رجعيا وهي حامل ثم راجعها فادعت أنه راجعها بعد أن وضعت وأنكرت ولادتها فإن ولادتها لا تثبت إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين إلا إذا كان الحبل ظاهرا كما ذكرنا آنفا فإنه حينئذ يكفي لإثبات الولادة شهادة القابلة لأن ظهور الحبل يؤيد شهادة المرأة فظهور الحبل لم ثبت به الولادة والنسب وإنما ثبت ذلك بشهادة القابلة المؤيد بظهور الحمل وشهادة القابلة لا تكون إلا بالولادة فلا من لثبوت النسب من الولادة على كل حال لأنها هي التي تفيد اليقين يدل لذلك ما ذكره في المبسوط حيث قال : لو قال رجل لامرأته : إذا حبلت فأنت طالق فإنها لا تطلق إلا إذا جاءت بولد في مدة أكثر من سنتين فإذا وطئها مرة احتمل أن تكون قد حملت منه فالأفضل له أن لا يقربها احتياطا ولكن لو وطئها بعد ذلك فإنه يجوز ولو ظهر حملها فإن ظهور الحمل لا تطلق به لاحتمال أن لا يكون حملا وإنما تطلق إذا ولدت بيقين ومتى تبين أنها طلقت وهي حامل وانقضت عدتها بالوضع ويشترط لأكثر مدة الحمل من وقت الطلاق وهي سنتان كما ذكرنا أما قبل السنتين فإنه يجوز أن تكون قد حملت قبل تعليق الطلاق فلا يتحقق التعليق لأن المعلق عليه وهو الحمل كان موجودا قبل اليمين وهذا كله صريح في أن ظهور الحمل لا يعتبر لا في ثبوت النسب . ولا في رد الجارية بعيب الحبل . ولا في ثبوت طلاق المرأة فكذلك لا يعتبر في مسألة الرجعية فإذا راجعها قبل الوضع وقعت الرجعة موقوفة لا يحكم بصحتها إلا بعد ولادتها في المدة المعينة وإلا تبين فسادها وحاصل هذا الخلاف أن بعضهم يقول : ان الرجل الذي أنكر وطء زوجته لا يملك رجعتها قبل وضع الحمل لأن نكران الوطء يقتضي أنها مطلقة قبل الدخول والرجعة تقتضي أنه وطئها فناقض نفسه ولا بد لتكذيبه في الدعوى الأولى من أمارة شرعية يقينية وهي الولادة في مدة يثبت النسب الولد منه . وحيث أنه لا يمكن أن يراجع بعد الوضع فله أن يراجع رجعة موقوفة قبل الولادة ولكن لا يترتب على هذه الرجعة حل الاستمتاع بالزوجة قبل أن تلد لأن الرجعة لا يمكن الحكم عليها بالصحة قبل الولادة المذكورة وظهور حمل المرأة غير كاف لأن ظهور الحمل أمارة ظنية وبعضهم يقول : تصح الرجعة بظهور الحمل ولكن لا تظهر صحتها إلا بالوضع في المدة المعينة ومعناه أنها لا تكون زوجة له إلا إذا وضعت في المدة المذكورة وإذا فليس للخلاف فائدة لأن كلا منهما يقول : إن صحة الرجعة موقوفة على الولادة إلا أن الفريق الأول يقول : إن الرجعة قبل الولادة لا يحكم عليها بالصحة والفريق الثاني يقول : يحكم عليها بالصحة الموقوفة على الولادة وتوقف ظهور الصحة على الولادة لا ينافي الحكم بالصحة قبل الولادة .
فإن قلت : ما فائدة هذا الكلام أليس للزوجين مندوحة عن كل هذا بعمل عقد جديد ؟ قلت : فائدته تظهر عند الشقاق فإذا راجعها الرجل قبل وضع الحمل وأشهد على الرجعة ثم جاءت بولد لأقل من ستة اشهر من تاريخ الطلاق ولستة أشهر فأكثر من تاريخ الزواج كان ولده وبذلك يثبت كذبه في دعواه عدم وطئها وتصح الرجعة وتكون زوجة له وإن لم ترض فلا يحل لها أو تتزوج غيره ولها عليه حقوق الزوجية ولكن هذه النتيجة متفق عليها بين الفريقين المختلفين في وصف الرجعة بالصحة وعدمها وإنما ذكرنا آراءهم تكملة للبحث العلمي ولأن في أدلة كل واحد منهما فوائد لا تخفى .
المسالة الثانية : رجل تزوج امرأة ثم ادعى أنه لم يطأها أصلا ثم ولدت منه ولدا لستة أشهر فأكثر من تاريخ الزواج وهي زوجة له ثم طلقها بعد الولادة فهل يصح له أن يراجعها قبل انقضاء عدتها أو لا يصح فكانت مطلقة قبل الدخول فلا رجعة لها ؟ والجواب : أن له الرجعة لأنها لما ولدت على فراشه وهي زوجة له وكانت ولادتها في المدة المعتبرة شرعا وهي ستة أشهر من تاريخ الزواج كان كاذبا في ادعائه عدم الوطء شرعا وعلى هذا تكون زوجة له .
المسألة الثالثة : إذا خلا رجل بامرأته ثم أنكر وطأه إياها ثم طلقها طلقة رجعية فهل يصح له المراجعة أو لا ؟ والجواب : أنه لا حق له في الرجعة لأنها مطلقة قبل الدخول وقد عرفت أن الخلوة توجب العدة ولكن تصح بها الرجعة فإذا فرض وراجعها ولم تقر بانقضاء العدة ثم تبين أنها حامل وجاءت بولد لأكثر من سنتين وهي أكثر مدة الحمل فإنه يثبت نسبه من المطلق ويتبين صحة رجعته بولادتها أما إذا ولدت في اقل من سنتين فإن ولادتها لا تكون رجعة لاحتمال أنها حملت به قبل طلاقها ويثبت نسبه منه متى ولدته لستة أشهر فأكثر من تاريخ الزواج وهذا بخلاف المسألة الأولى فإنه أنكر وطأها ولم يعترف بالخلوة بها ثم طلقها فكانت مطلقة قبل الدخول والخلوة فلا عدة عليها فلا تثبت الزوجية بينهما إلا إذا وضعت لأقل من ستة أشهر من تاريخ الطلاق ولستة أشهر فأكثر من تاريخ الزواج أما في هذه المسألة فإن المفروض أنه اعترف بالخلوة فيجب عليها أن تعتد منه والمطلقة رجعيا ما دامت لم تعترف بانقضاء عدتها فإنها إذا ولدت ثبت نسب الولد من مطلقها ثم إن راجعها قبل الولادة فإن كانت الولادة لأكثر من سنتين كانت رجعة وإلا فلا كما بيناه وأما انقضاء العدة بالأشهر فإنه لليائسة من المحيض لكبر أو صغر والمتوفى عنها زوجها وسيأتي بيانه في مباحث العدة .
هذا وإذا اختلف الزوجان فادعى الزوج الرجعة وأنكرت الزوجة فإن لذلك صورا : .
الصورة الأولى : أن يدعي أنه راجعها قيل انقضاء عدتها ثم يخبرها بذلك بعد انقضاء العدة بأن يقول لها : كنت راجعتك قبل انقضاء العدة ولا بينة له وفي هذه الصورة لا يكون له حق في الرجعة إلا إذا صدقته في دعواه فإن صدقته فإن الرجعة تصح قضاء أما إذا كذبته فلا رجعة له عليها وذلك لأن الزواج يثبت بالتصادق فثبوت الرجعة بالتصادق أولى لأن الزوجية لم تنقطع ولكن إن كان كاذبا فإن الرجعة لا تصح ديانة ولو صدقته فلا يليق بالمسلم أن يقول لها : راجعتك كذبا ويجعل هذه رجعة كافية لإباحة زوجته بعد انقضاء عدتها فإنه يحرم عليها أن يطأها إن كان كاذبا وقد يقال : إذا رغب كل منهما في العودة إلى الزوجية فأية فائدة في ادعاء الرجعة ومصادقة الزوجة أو ليس من المعقول البديهي أن تجديد العقد في مثل هذه الحالة أولى وأنزه وأبعد عن الشك والاحتمال ومع هذا فلا فرق بين الرجعة وبين تجديد العقد من حيث عدد الطلاق . وما وراء ذلك فلا قيمة له عند الاتفاق ؟ والجواب : أن العقد قد يكون غير ممكن كما إذا كانا مسافرين في الصحراء وليس معهما شاهدان ولا يمكنهما الحصول على شاهدين بسهولة وكان قد راجعها حقا قبل انقضاء عدتها فإن التصادق على الرجعة حينئذ أسهل من العقد وأيضا قد تكون هذه آخر طلقة وبانقضاء العدة تحرم مؤيدا وغير ذلك .
والمفكرون من الفقهاء يفرضون كل ما عساه أن يقع ويذكرون له أحكامه فإذا ادعى الرجعة ولم تصدقه ولا بينة له فلا رجعة له عليها والقول قولها . وهل له اليمين أولا ؟ والجواب : نعم له تحليفها اليمين على المفتى به وبعضهم يقول : لا يمين له عليها لأن الرجعة لا تحليف فيها كبعض أمور أخرى : منها الإيلاء والنسب والنكاح والحدود واللعان ولكن المفتى به أن فيها الحلف ما عدا الحدود واللعان .
الصورة الثانية : أن يدعي بعد انقضاء العدة أنه راجعها قبل أن تنقضي ويقيم البينة على أنه قال : راجعت زوجتي فلانة أمام البينة وفي هذه الحالة تصح الرجعة وكذا إذا أقر أمام البينة على أنه جامع زوجته أو لمسها بشهوة . أو نظر إلى فرجها بشهوة قبل انقضاء العدة فإذا شهدت البينة بأنه أقر بذلك لها قبل انقضاء العدة فإن الرجعة تثبت أما إقراره بعد انقضاء العدة بذلك فإنه لا قيمة له لأنه لم يخرج عن كونه دعوى للرجعة بخلاف إقراره به قبل انقضاء العدة فإنه إقرار بالرجعة . فمتى ثبت ذلك الإقرار ثبتت الرجعة .
الصورة الثالثة : أن يدعي رجعتها في العدة كأن يقول لها : قد راجعتك أمس وفي هذه الحالة يصدق . ويكون ذلك رجعة وإن لم ينشئ رجعة جديدة فلا يلزم أن يقول لها : راجعتك لأنه يملك الإنشاء في الحال فيملك الإخبار به في الماضي ويصح إخباره به . ولكن يشترط أن يقصد بقوله : كنت راجعتك أمس إنشاء رجعتها . أما إذا قصد مجرد الإخبار فإنه يتوقف على تصديقها . فإن صدقته فذاك ولعل قائلا يقول : ما فائدة هذا الكلام أيضا إذ لا معنى لكونه يخبرها بإنشاء الرجعة أمس يريد به رجعتها وهو قادر على أن يقول لها : راجعتك من غير لف ولا عناء ؟ فماذا يكون الحكم ؟ .
والجواب : أن هذه المسألة قد تقع وقد يترتب عليها خلف وذلك لأنه من الممكن القريب أن يقول زوج لمطلقته : قد راجعتك أمس في آخر لحظة من حيضتها الأخيرة ثم ينقطع دم الحيض بعد ذلك فتنقضي عدتها فتقول له : إن هذا ليس برجعة فلا رجعة لك علي فماذا يكون الحال ؟ أن الشرع في هذه الحالة يقول لها : إن هذه رجعة فمتى ادعى أنه قصد بذلك إنشاء الرجعة صدق وكان مراجعا .
الصورة الرابعة : أن يقول لها : رجعتك من غير أن يعلم أن عدتها قد انقضت . وهذه الصورة تحتها حالتان . الحالة الأولى : أن تجيبه فور قوله هذا بقولها : قد انقضت عدتي بحيث يكون كلامها متصلا بكلامه وفي هذه الحالة تبطل الرجعة بشرط أن يكون كلامها في زمن يصح فيه انقضاء العدة بأن يكون قد مضى شهران إن كانت من ذوات الحيض إلا أن تدعي الحمل وأنها أسقطت سقطا مستبين الخلق وثبت ذلك . وإلا فلا يعبأ بقولها وتصح الرجعة والصاحبان يقولان : تصح الرجعة ولو قالت له ذلك لأن العدة كانت قائمة ظاهرا قبل قولها فقوله : راجعت صادف قيام العدة ولكن الإمام يقول : إنها أمينة على نفسها فمتى قالت له : أن عدتي قد انقضت كان معناه أنها انقضت عدتي فقال لها : راجعتك لا يكون ذلك رجعة باتفاق وللزوج تحليفها بأن عدتها قد انقضت عند إخباره بذلك .
الحالة الثانية : أن يقول لها : راجعتك فتسكت ولو قليلا ثم تقول له : قد انقضت عدتي وفي هذه الحالة تصح الرجعة باتفاق لأنها متهمة بالسكوت .
الصورة الخامسة : أن تدعي انقضاء عدتها ثم تكذب نفسها وتقول : إن عدتي لم تنقض وفي هذه الحالة يصح له أن يراجعها لأنها كذبت نفسها في حق عليها وهو حق الزوج في رجعتها فيبقى هذا الحق قائما بخلاف ما إذا كذبت نفسها قي حق لها فإن تكذيبها لا يعتبر .
الصورة السادسة : أن يخلو بها ثم يدعي أنه وطئها وهي تكذبه في دعوى الوطء وتدعي أنه طلقها قبل الوطء وبذلك تبين منه فلا رجعة له عليها وحكم هذه الصورة أن الرجعة تصح ويصدق هو بلا يمين لأن الظاهر - وهو الخلوة بها - يؤيده ويكذبها .
الصورة السابعة : إذا لم تثبت خلوته بها وادعى أنه وطئها فكذبته وفي هذه الصورة لا رجعة له لأن الظاهر يكذبه عكس الصورة الأولى .
( يتبع . . . )