ويشترط في ذكر النفس أو ما يقوم مقامها من الاختيارة أو الأب أو الأم أو نحو ذلك أن تكون متصلة بالاختيار فإذا قال لها : اختاري فقالت : اخترت ثم سكتت زمنا وقالت : نفسي فإن كان ذلك في المجلس فإنه يصح أما إذا قالت : اخترت ثم قامت من المجلس وقالت : نفسي فإنه لا يصح ويبطل اختيارها وإذا كرر لفظ اختاري ثلاثا فقال لها : اختاري اختاري اختاري فقالت : اخترت أو اخترت اختيارة يقع ثلاثا إذا نوى بكل واحدة الطلاق فإذا قال : إنه نوى بواحدة الطلاق ونوى باثنتين المسكن فإنه يصدق قضاء بخلاف ما إذا قال : اختاري نفسك وكررها ثلاثا وقال : إنه لم ينو الطلاق فإنه لا يصدق قضاء وذلك لأن التكرار مع ذكر النفس دليل على إرادة الطلاق ودلالة الظاهر أقوى من النية عند القاضي فإن كان صادقا في دعواه فإن ذلك ينفعه ديانة بينه وبين الله .
وحاصل ذلك أنه لا بد في الكناية من النية أو ما يقوم مقامها من دلالة الحال أو التأكيد بالتكرار .
وإذا قال لها : اختاري نفسك وكررها ثلاثة فقالت : اخترت الأولى أو الوسطى فقيل : يلزمه ثلاث لأنها ملكت الكل دفعة واحدة بدون ترتيب فلم تتحقق الأولى والثانية فيلغو قولها اخترت الأولى وقيل : يلزمه واحدة وهو الصحيح .
وإذا قال لها : اختاري نفسك وكررها ثلاثا فقالت : طلقت نفسي أو اخترت نفسي بتطليقة أو اخترت الطلقة الأولى فإنها تطلق طلقة بائنة لأنه فوض لها الطلاق البائن فلا تملك الرجعي بخلاف ما إذا قال لها : اختاري تطليقة فقالت : اخترت نفسي فإنها تطلق واحدة رجعية لأنه فوض لها الرجعى .
هذا وإذا أرسل إلى امرأته رجلا فقال له خير امرأتي وعلمت بذلك فليس لها الخيار قبل أن يذهب إليها ويخيرها وهذا بخلاف ما إذا قال له أخبرها بالخيار وقبل أن يخبرها سمعت بالخبر فاختارت نفسها فإنه يصح .
وأما التفويض باللفظ الثالث وهو الأمر باليد فإنه يقع به الطلاق البائن بالنية وتصح فيه نية الثلاث بخلاف الاختيار فإنه لا تصح فيه نية الثلاث كما تقدم . فإذا قال لزوجته : أمرك بيدك ونوى به الثلاث فقالت : اخترت نفسي أو اخترت نفسي بواحدة أو قبلت نفسي أو اخترت أمري أو أنت علي حرام أو مني بائن أو أنا منك بائن أو طالق فإنه يقع الثلاث التي نواها فإن لم ينو الثلاث فإنه يقع واحدة بائنة .
ويشترط في الأمر باليد ما يشترط في الاختيار من ذكر النفس أو ما يقوم مقامها فلا بد أن تقول المرأة : اخترت نفسي أو اخترت أمري ولا يملك الزوج الرجوع بعد التفويض ولا بد من اختيار نفسها في المجلس وغير ذلك من الأحكام المتقدمة في التفويض الصريح . والتفويض بالاختيار .
ومثل قوله : أمرك بيدك قوله أمرك بشمالك أو أنفك أو لسانك ولا يشترط أن تكون كبيرة بل إذا فوض لها وهي صغيرة فإنه يصح كما تقدم قريبا .
وكذا قوله : أعرتك طلاقك أو أمرك بيد الله أو أمري بيدك فإن كل هذه الألفاظ مثل قوله : أمرك بيدك .
هذا وقد تقدم أنه إذا تزوجها على أنها أمرها بيدها فإنه يصح بشرط أن تبدأ المرأة بالشرط فتقول : زوجتك نفسي على أن أمري بيدي أطلق نفسي كلما أريد فيقول الزوج قبلت أما إذا بدأ الزوج فإنها لا تطلق .
وقد تقدم تعليل ذلك في مبحث - إذا اشترط في النكاح شرطا - من هذا الجزء فارجع إليه .
المالكية - قالوا : للزوج أن ينيب عن الزوجة أو غيرها في الطلاق وتنقسم النيابة في الطلاق إلى قسمين : .
الأول : رسالة وهي أن يرسل الزوج إلى امرأته رسولا يعلمها بالطلاق فالرسول لم يجعل له الزوج إنشاء الطلاق وإنما جعل له إعلام الزوجة بثبوت الطلاق بعبارة الزوج نفسه فليس للرسول سوى نقل عبارة الزوج للزوجة لإعلامها بثبوت الطلاق فنيابة الرسول نيابة بإعلام الزوجة بثبوت الطلاق فحقيقة الرسالة هي أن يقول الزوج للرسول : بلغ زوجتي أني قد طلقتها وفي هذه الحالة لا يتوقف طلاقها على تبليغها الرسالة وقد تطلق الرسالة مجازا على ما إذا قال لشخص : طلق زوجتي .
القسم الثاني : تفويض الطلاق وهو ثلاثة أنواع : توكيل وتخيير وتمليك والفرق بين الأمور الثلاثة أن التوكيل هو جعل إنشاء الطرق للزوجة أو لغيرها مه بقاء حقه في المنع من الطلاق ومعنى ذلك أن التوكيل لا يسلب حق الموكل في عزل الوكيل أو رجوعه عن توكيله قبل تمام الأمر الذي وكله فيه فلو وكلها في تطليق نفسها ففعلت وقع الطلاق وليس له حق الرجوع حينئذ لأنها أتمت الفعل الذي وكلها فيه إنما له الرجوع والعزل قبل أن تطلق نفسها .
والحاصل أن التوكيل ليس فيه جعل إنشاء الطلاق حقا للوكيل وإنما فيه جعل إنشاء الطلاق للوكيل نيابة عن الموكل فللموكل عزله عن هذا متى شاء على أنه إذا وكلها بالطلاق مع تعلق حق لها به زائد على التوكيل فإنه لا يملك عزلها مثال ذلك أن يقول لها : إن تزوجت عليك فقد جعلت أمرك بيدك وأمر من أتزوجها بيدك توكيلا عني ففي هذه الحالة لا يملك عزلها من التوكيل ولا عزله لأن لها حقا فيه وهو دفع الضرر عنها وإذا وكل الزوج عنه أجنبيا على أن يفوض للزوجة أمرها بأن قال له : وكلتك على أن تفوض لزوجتي أمرها تخييرا أو تمليكا أو قال له : وكلتك على أن تخير زوجتي أو تملكها أمرها فإن ذلك يصح وهل يكون الأجنبي في هذه الحالة وكيلا يصح للزوج عزله أو يكون مفوضا كالزوجة فلا يصح ؟ والجواب : أنه إذا فرض للزوجة بالفعل فقد أصبحت مالكة ولا يكون للزوج كلام وأما إذا لم يفوض لها فإنه يكون وكيلا يصح عزله كما إذا وكله على طلاقها فإن له عزله قبل أن يطلقها فإذا طلقها نفذ طلاقه ولا كلام للزوج وهذا هو المعقول لأن كونه وكيلا في التخيير أو التمليك لغيره لا يجعله مخيرا أو مملكا فهو وكيل على كل حال فمن قال : أنه يكون مالكا للتخيير أو التمليك فلا يصح عزله فقد سهى عن كونه وكيلا في تمليك الزوجة فلا يكون هو مخيرا ولا مملكا نعم إذا خيره في عصمتها أو ملكه إياها كأن قال له : أنت مخير في تطليق زوجتي أو أمر عصمتها بيدها فإنه في هذه الحالة لا يصح عزله فإنه يكون هو المخير المملك .
هذا هو التوكيل أما التخيير فهو جعل الزوج إنشاء الطلاق ثلاثا حقا لغيره نصا أو حكما يعني أن صيغة التخيير وضعها الشارع لتمليك الغير الطلاق الثلاث نصا أو حكما بأنه يملك إنشاء الطلاق الثلاث فالمخيرة إذا اختارت الطلاق وجب عليها أن تطلق ثلاثا وإلا سقط خيارها على التفصيل الآتي .
أما التمليك فهو عبارة عن جعل إنشاء الطلاق حقا للغير راجحا في الثلاث لا نصا في الثلاث ولا حكما فيخص بأقل من الثلاث بالنية فقوله : جعل إنشاء الطلاق حقا للغير خرجت عنه الرسالة وخرج به التوكيل ليس فيه جعل إنشاء الطلاق حقا للغير وقوله : راجحا في الثلاث خرج به التخيير لأن التخيير فيه جعل إنشاء الطلاق الثلاث للغير نصا أو حكما لا جعله راجحا وحاصل الفرق بين التوكيل وبين التخيير والتمليك أن الوكيل يعمل على سبيل النيابة عن موكله والمملك والمخير يفعلان عن نفسهما لأنهما قد ملكا ما كان الزوج يملكه والفرق بين التخيير والتمليك أن التخيير يجعل للمخير - سواء كانت الزوجة أو غيرها - الحق في إنشاء الطلاق الثلاث وإن لم ينو الزوج بها الثلاث أما التمليك فإنه يجعل للغير الحق في الثلاث راجحا ولكن يخص ما دون الثلاث بالنية فإذا ملك الزوج امرأته الطلاق فطلقت نفسها ثنتين أو ثلاثا وقال هو : بل نويت تمليكها واحدة فإنه يسمع منه بالشرائط الآتية : أما إذا خيرها وكانت مدخولا بها فطلقت نفسها ثلاثا وقال : إنني نويت واحدة أو ثنتين فلا يسمع قوله .
وحاصل الفرق أن المخيرة إذا كانت مدخولا بها وطلقت نفسها ثلاثا فإنه ينفذ ولا يسمع من الزوج دعوى أنه نوى أقل من ذلك . أما المملكة فإن له أن يعترض على ما زاد على الواحدة .
هذا هو المقرر المنقول عن مالك ولكن التحقيق أن الإفتاء بذلك يتبع العرف فإن كان العرف يستعمل التخيير في تمليك الثلاث بقطع النظر عن نية الزوج المخير عمل به وإلا عمل بما عليه العرف والظاهر أن المنقول عن الإمام مالك من أن التخيير للمدخول بها يملكها الثلاث بدون نية مبني على عرف زمانه وإلا فالواقع أن التخيير ليس صريحا في الطلاق فهو كناية لا يلزم به شيء لغة كما هو الحال عند الأئمة الثلاثة ولكن المالكية يعتبرون العرف ويقدمونه على اللغة فإذا نقل العرف لفظا من معناه اللغوي إلى مفهوم آخر واستعمله فيه كان صريحا فيه وهذا هو الذي كان في عهد مالك Bه في تخيير المرأة أما إذا كان عرف زماننا على أنه لا يقع طلاق بالتخيير إلا بالنية فإنه يعمل به لأن الحكم يتغير بتغير العرف .
هذا هو إيضاح الفرق بين التوكيل والتخيير والتمليك .
أما الصيغ التي تدل على التخيير فهي كل لفظ يدل على أن الزوج فوض لامرأته البقاء على عصمته أو عدم البقاء ومن ذلك أن يقول لها : اختاري نفسك أو اختاريني أو اختاري أمرك .
وأما الصيغ التي تدل على التمليك فهي كل لفظ يدل على أن الزوج جعل الطلاق بيد امرأته أو بيد غيرها بدون تخيير ومن ذلك أن يقول لها : طلقي نفسك أو ملكتك أمرك أو وليتك أمرك أو أمرك بيدك أو طلاقك بيدك أو نحو ذلك .
أما الصيغ التي تدل على التوكيل فقد ذكرت في - مباحث الوكالة - في الجزء الثالث فارجع إليه .
وإذ قد عرفت الفرق بين الرسالة والتمليك والتخيير والتوكيل وعرفت الصيغ التي تدل على كل منها فاعلم أنه يتعلق بها أحكام بعضها مشترك بينها وبعضها خاصة بأحدها دون الآخر فمن الأحكام المشتركة وجوب الحيلولة بين الزوجين بعد التمليك أو التخيير أو التوكيل الذي يتعلق به حق الزوجة فإذا قال لها : اختاري نفسك أو قال لها أمرك بيدك أو قال لها : إن تزوجت عليك فأمرك بيدك توكيلا ثم تزوج عليها وجب عليه أن يعتزلها ولا يقربها حتى تجيب بما يقتضي أنها طلقت نفسها أو ردت الطلاق وذلك لأن العصمة في هذه الحالة مشكوك في بقائها لأن للمرأة تطلق نفسها في أي وقت ولا يحل الاستمتاع بامرأة مشكوك في بقاء زوجيتها ولا نفقة لها زمن الحيلولة لأنها هي السبب فإذا ماتا في زمن الحيلولة يتوارثان أما التوكيل الذي لم يتعلق به حق لها كما إذا قال لها : وكلتك في طلاق نفسك فإنه لا يمنع قربانها فلو استمتع بها بعد التوكيل ولو مكرهة كان ذلك الاستمتاع عزلا لها من التوكيل حتى ولو كان الزوج قاصدا بقاءها على التوكيل .
ويصح تعليق التخيير والتمليك على أمر من الأمور كأن بقول لها : إن جاء والدك اختاري نفسك . أو إن قدم أخوك طلقي نفسك فإذا قال ذلك : لا يجب التفريق بينهما حتى يجيء أبوها أو يقدم أخوها .
وكذا يصح تقييد التمليك أو التخيير بزمن كأن بقول لها : خيرتك إلى سنة أو خيرتك في البقاء معي أو مفارقتي إلى سنة أو إلى أي زمن يبلغه عمرهما ظاهرا فإن التخيير يصح ولكن بمجرد علم الحاكم بتخييرها أو تمليكها على هذا الوجه يجب عليه أن يطلب منها الجواب بدون مهلة فعليها أن تطلق نفسها حالا أو ترد ما بيدها من التمليك أو التخيير فإن قضت فذاك وإلا أسقط الحاكم تخييرها أو تمليكها حتى ولو رضي الزوج بالإمهال وذلك لأن فيه حقا لله تعالى وهو حرمة التمادي على الاستمتاع بالمرأة المشكوك في بقاء عصمتها .
ومن الأحكام المشتركة بين التمليك والتخيير أنه يعمل فيهما بجواب المرأة فإذا طلقت نفسها طلاقا صريحا أو كناية ظاهرة عمل بمقتضاهما ومثال الصريح أن تقول : طلقت نفسي منك أو أنا طالق منك أو أنت طالق مني ومثال الكناية الظاهرة أن تقول : أنا منك بتة أو بائن أو حرام ويلحق بهما قولها : اخترت نفسي أما إذا أجابت بالكناية الخفية فإنه يسقط ما بيدها ولا يقبل منها أنها أرادت بذلك الطلاق فإذا قالت : أنا منك مطلقة - بفتح اللام مخففة - سقط خيارها وإنما وقع الطلاق بقولها : اخترت نفسي مع كونه ليس من ألفاظ الطلاق الصريح ولا من ألفاظ الكناية الصريحة لنه جعل جوابا للتخيير فيقع به الطلاق وقد تقدم في مباحث الكنايات بيانات الكناية الظاهرة والكناية الخفية فارجع إليه .
وإذا ردت الطلاق كأن قالت : رددت ما ملكتني أو لا أقبل منك تخييرك عمل بمقتضاه من بطلان ما بيدها وبقائها زوجة ومثل ذلك ما إذا ردت التمليك بالفعل وهو يحصل بأن تمكنه من نفسها طائعة وإن لم يحصل وطء فمتى مكنته من نفسها بعد أن علمت بأنه خيرها أو ملكها أمرها فإن حقها يسقط ولو كانت جاهلة بأن تمكينها يسقط حقها ومثل تمكينها ما إذا ملك أمرها لأجنبي ومكنه منها طائعا بأن خلى بينه و بينها ولم يحل بينهما فمتى فعل ذلك سقط حقه في التمليك أو التخيير وكذا يسقط حقها إذا حدد لها زمنا ومضى ذلك الزمن ولم يوقفها الحاكم - يلزمها بالاختيار - فإذا قال لها : اختاريني أو اختاري نفسك في هذا اليوم أو في هذا الشهر ولم يوقفها الحاكم عند علمه ومضى ذلك الزمن المحدد ولم تختر فإن حقها يسقط .
والحاصل أنه يشترط لبقاء الخيار أمران : الأول أن لا تمكنه من نفسها باختيارها بعد علمها بالتخيير أو التمليك فإن مكنته سقط حقها وإن لم يطأها ولو كانت جاهلة بأن تمكينه يسقط حقها . الثاني : أن لا يمضي الزمن الذي حدده للتخيير أن حدد له زمنا ولتحديد الزمن حالتان : .
الحالة الأولى : أن يعلم الحاكم به وفي هذه الحالة يجب على الحاكم أو من يقوم مقامه الحيلولة بينهما حتى تجيب بالتطليق أو برد التمليك أو التخيير بلا مهلة فإن لم تفعل قضى الحاكم بإسقاط حقها كي لا تستمر الزوجية مشكوكا فيها زمنا .
( يتبع . . . )