- قد عرفت أن الرجل هو الذي يملك الطلاق دون المرأة . وذلك لأمرين : .
أحدهما : أن الشريعة قد كلفت الرجل بالإنفاق على المرأة وأولادها منه حال قيام الزوجية وبعدها إلى أمد معين وكلفته أيضا بأن يبذل لها صداقا قد يكون بعضه مؤجلا إلى الطلاق وأن يدفع لها أجرة حضانة ورضاع إن كان له منها أولاد في سن الحضانة والرضاع وهذا كله يستلزم نفقات يجب أن يحسب حسابها بعد الفراق فمن العدل أن يكون الطلاق بيد الرجل لا بيد المرأة لأنه هو الذي يغرم المال وربما كان عاجزا عن القيام بالانفاق على مطلقته وعلى غيرها فلا يندفع في الطلاق ويترتب على ذلك عدم تفرق الأسرة وانحلالها أما لو كان الطلاق بيد المرأة فإنها لا تبالي بإيقاعه عند سورة الغضب إذ ليس أمامها من التكاليف ما يحول بينها وبين إيقاع الطلاق بل ربما زينت لها سورة الغضب إيقاع الطلاق كي ترغم الرجل على دفع حقوقها لترهقه بذلك انتقاما منه وذلك حيف ظاهر تتنزه عنه الشريعة الإسلامية التي هي من عند الله العليم الخبير .
ثانيهما : أن المرأة مهما أوتيت من حكمه فإنها سريعة التأثر بطبيعتها فليس لها من الجلد والصبر مثل ما للرجل فلو كان الطلاق بيدها فإنها تستعمله أسوأ استعمال لأنها لا تستطيع ضبط نفسها كما يستطيع الرجل فمن العدل والمحافظة على استمرار الزوجية وبقائها أن يكون الطلاق بيد الرجل لا بيد المرأة .
لعل بعضهم يقول : إن كثيرا من الرجال على هذا المنوال فهم لا يبالون أن يحلفوا بالطلاق لأقل الأمور شأنا وأحقرها منزلة . بل بعضهم يحلف بالطلاق لمناسبة ولغير مناسبة وكأن الطلاق من كلمات التسلية واللعب والجواب : أن الشريعة الإسلامية لم تشرع لهؤلاء الجهلة فاسدي الأخلاق الذين لا يعرفون من الإسلام إلا أنهم مسلمون فحسب وإنما شرعت للمسلمين حقا الذين يستمعون قول الله وقول رسوله فيعملون به فلا ينطقون بالطلاق إلا لحاجة تقتضيه أما هؤلاء المستهترون الذين لا يبالون بأمر الله ولا ينفذون قول رسول الله فإن الله لا يعبأ بهم .
وإذا كان الطلاق ملكا للرجل وحده كان من حقه أن ينيب عنه غيره سواء كان النائب زوجته أو غيرها وفي ذلك تفصيل المذاهب ( 1 ) .
_________ .
( 1 ) ( الحنفية - قالوا : للرجل أن ينيب عنه امرأته في تطليق نفسها منه . كما له أن ينيب عنه غيرها في الطلاق على ثلاثة أوجه : .
الوجه الأول : الرسالة وهو أن يرسل لها رسولا يخبرها بأن زوجها يقول لها : اختاري فالرسول ينقل عبارة الزوج إلى المرأة فلم ينشئ عبارة من نفسه فإذا نقل لها الرسول ذلك واختارت نفسها بالشرائط الآتية طلقت منه .
الوجه الثاني : التوكيل وهو أن يقيم الزوج غيره مقام نفسه في تطليق امرأته سواء كانت المرأة نفسها . أو غيرها إلا أن المرأة لا يمكن أن تكون وكيله لأن الوكيل يعمل عملا للغير أما المرأة فإنها تطلق نفسها فلا يعمل لغيرها وعلى هذا يكون توكيلها تفويضا ولو صرح بالتوكيل كما سيأتي توضيحه قريبا والفرق بين الرسول والوكيل أن الرسول ينقل عبارة الزوج ولا ينشئ عبارة من نفسه أما الوكيل فإنه يعبر بعبارته فلم ينقل عبارة موكله .
الوجه الثالث : التفويض وهو تمليك الغير الطلاق ويفرق بين الوكالة والتفويض بأن المفوض مالك يعمل بمشيئته بخلاف الوكيل فإنه يعمل لمشيئته موكله ويختلف كل من التوكيل والتفويض في عدة أحكام منها أن الزوج المفوض لا يملك الرجوع بعد التفويض فإذا قال لامرأته : طلقي نفسك فإنها تملك الطلاق بمجرد قوله هذا ولو لم تقل : قبلت وليس له أن يقول : قد رجعت أو قد عزلتك بخلاف التوكيل فإن له أن يعزل وكيله فإذا قال لشخص أجنبي : طلق امرأتي فإن له أن يقول بعد ذلك : عزلتك لأن هذه العبارة توكيل وله أن يبطل توكيله بوطء زوجته ومنها أن التفويض لا يبطل بجنون الزوج بخلاف التوكيل ومنها أنه لا يشترط في المفوض إليه أن يكون عاقلا فإذا فوض لامرأته المجنونة أو فوض لصغير لا يعقل وطلق امرأته أو طلقت نفسها وقع الطلاق بخلاف الوكيل فإنه يشترط فيه أن يكون عاقلا من أول الأمر والفرق بين الحالتين أنه في الحالة الأولى قد ملك الزوج الطلاق الذي له إيقاعه للمجنون فالمجنون أوقع ما أعطاه إياه نعم إذا فوض الطلاق إلى عاقل ثم جن فإن التفويض يبطل لأنه ملكه وهو عاقل ومنها أن التفويض يتقيد بالمجلس فإذا قام المفوض إليه من المجلس قبل أن يطلق أو يختار بطل التفويض كما سيأتي قريبا .
ثم إن التفويض ينقسم إلى قسمين : صريح وكناية وألفاظ الصريح كأن يقول لزوجته : طلقي نفسك أو يقول لها طلقي نفسك إذا شئت أو متى شئت أو نحو ذلك فلذلك تفويض الطلاق إلى المرأة تملك به تطليق نفسها في المجلس حتى ولو قال لها : وكلتك في تطليق نفسك فإن هذا وإن كان قد صرح فيه بلفظ التوكيل ولكن المرأة في هذه الحالة لا تنطبق عليها الوكالة لأن الوكيل يعمل لغيره وهي تطلق نفسها فلا تعمل لغيرها فكلمة الوكالة لا تخرج العبارة عن التفويض ومثل ذلك ما إذا قال لغير امرأته طلق امرأتي متى شئت أو إذا ما شئت أو إذا شئت وكذا إذا قال لامرأته : طلقي ضرتك إذا شئت أو متى شئت الخ أما إذا قال للأجنبي : طلق امرأتي أو قال لامرأته طلقي ضرتك ولم يقيد ذلك بالمشيئة فإنه يكون توكيلا لا تفويضا . أما الكناية فهي لفظان أحدهما أن يقول : اختاري . ثانيهما : أن يقول : أمرك بيدك .
ومن هذا يتبين أن ألفاظ التفويض ثلاثة : أحدها الصريح سواء كان مقيدا بالمشيئة أو لا . ثانيها : اختاري . ثالثها : أمرك بيدك وهما كناية لا يقع بهما الطلاق إلا بثلاثة شروط : .
أحدها : أن ينوي الزوج بها الطلاق . ثانيها : أن تنوي الزوجة كذلك . ثالثها : أن تضيف الطلاق إلى نفسها وإلى زوجها كما تقدم في مبحث إضافة الطلاق على أن دعوى عدم النية لا تسمع من الزوج قضاء إذا كانا في حالة غضب أو حالة مذاكرة الطلاق ولكن ينفعه ذلك بينه وبين الله .
ويشترط لصحة التفويض بألفاظه الثلاثة أن لا يقع التطليق به في المجلس فإذا شافهها بقوله : طلقي نفسك لزمها أن تطلق نفسها في المجلس الذي شافهها وهي جالسة فيه وكذا إذا علمت بأنه فوض إليها الطلاق وهي غائبة فإنها يلزمها أن تطلق نفسها في المجلس الذي علمت فيه بحيث لو انتقلت منه يبطل التفويض ومثل ذلك ما إذا فوض إلى غير الزوجة فإنه يلزمه أن تطلق في المجلس . ولا يشترط أن تطلق نفسها فورا بل لو مكثت في مكانها يوما أو أكثر بدون أن تتحول منه فإن لها ذلك وكذا لا يشترط حضور الزوج المفوض إنما الشرط أن لا تتحول عن مكانها الموجودة فيه وأن لا تعمل عملا يدل على الاعراض عن تطليق نفسها . فإن تحولت عن المجلس بالانتقال إلى مكان آخر بطل التفويض وكذا إن عملت عملا يدل على الانصراف عن ذلك وإن لم تتحول من مكانها وذلك كما إذا كانت جالسة فقامت أو تكلمت بكلام أجنبي يدل على انصرافها عن الموضوع أو شرعت في خياطة ثوبها مثلا أو عملت عملا يفيد الإعراض أما إذا عملت عملا لا يدل على الإعراض والانصراف كأن لبست ثوبا أو شربت ماء أو كانت قائمة فجلست أو كانت قاعدة فاتكأت أو نامت وهي قاعدة أو استدعت والدها للمشورة أو استدعت الشهود فإن كل ذلك لا يبطل به التفويض لأنه لا يدل على إعراضها .
وإذا كانت في سفينة جارية وفوض لها طلاقها فإن انتقال السفينة من مكانها لا يضرها لأنها كالمنزل بالنسبة لها إنما الذي يبطل تفويضها أن تقوم هي من مكانها أو تعمل ما يدل على الإعراض وإذا كانت راكبة دابة سائرة فأوقفتها فإنه لا يضر وإذا كانت واقفة فسيرتها فإنه يضر لأنها سارت باختيارها إلا إذا أجابته بمجرد سكوته من التفويض بحيث وصلت قولها : طلقت نفسي بقوله : طلقي نفسك فإنه يصح مع تسيير الدابة وإذا كانت في محمل يقوده الجمال فإنه يعتبر كالسفينة والبيت .
هذا إذا لم يؤقت التفويض بوقت فإذا أقته بوقت كأن قال لها : طلقي نفسك أثناء شهرين أو نحو ذلك فإن لها أن تطلق نفسها في خلال المدة وإذا قال لها : طلقي نفسك متى شئت أو متى ما شئت أو إذا شئت أو إذا ما شئت فإن لها أن تطلق نفسها في أي وقت شاءت ولا يصح رجوعه على أي حال لأنه قد ملكها الطلاق كما تقدم .
هذا ويتعلق بألفاظ التفويض الثلاثة المذكورة أحكام أخرى إليك بيان ما يلزم منها : .
فأما التفويض صريحا فإنه يتعلق به أحكام منها أنه إذا قال لزوجته : طلقي نفسك فقالت : طلقت نفسي وقعت واحدة رجعية سواء نوى واحدة أو لم ينو شيئا وكذا إذا نوى ثنتين فإنه يقع به واحدة فقط لما عرفت من أن الطلاق الصريح موضوع للواحدة فلا يصلح لنية الاثنتين نعم إذا نوى بقوله : طلقي نفسك الثلاث فطلقت نفسها لزمته الثلاث كما تقدم في الصريح وإذا قال لها : طلقي نفسك فقالت : أبنت نفسي وقع به طلاق رجعي وذلك لأنه لما قال لها : طلقي نفسك فقد ملكها أصل الطلاق فزادت عليه وصف البينونة فيلغي الوصف الزائد ويثبت الأصل فلا يشترط في وقوع الطلاق بقولها : أبنت نفسي أن تنوي المرأة الطلاق كما لا يشترط إجازة الزوج الطلاق بها وهذا بخلاف ما إذا قالت : أبنت نفسي ابتداء بدون أن يقول لها : طلقي نفسك فإنه لا يقع به الطلاق إلا إذا نوت المرأة الطلاق وأجاز الزوج الطلاق بذلك مع نية الطلاق . أما إذا قال لها : طلقي نفسك فقالت : اخترت نفسي فإنه لا يقع به شيء أصلا وذلك لأن قولها : اخترت نفسي ليست من ألفاظ التفويض لا صريحا ولا كناية فيقع لغوا نعم يكون كناية إذا قال لها : اختاري فقالت : اخترت نفسي فإنه يقع به الطلاق البائن بشرط أن ينوي الزوج به الطلاق وتنوي الزوجة كذلك .
وإذا قال لها : طلقي نفسك ثلاثا فطلقت نفسها واحدة وقعت واحدة وإذا قال لها : طلقي نفسك واحدة فطلقت نفسها ثلاثا فإنه لا يقع به شيء على الراجح وقيل : تقع به واحدة . وإذا قال لها : طلقي نفسك ثلاثا إن شئت فقالت : أنا طالق لا يقع به شيء وذلك لأنه علق الطلاق الثلاث على مشيئتها الثلاث ولا يمكن إيقاع الطلاق بلفظ طالق فلم يقع به شيء لأنه يوجد المعلق عليه فإذا قالت أنا طالق ثلاثا وقع الثلاث وإذا قال لها : طلقي نفسك فقالت : أنا طالق وقع طلاق واحد أما إذا قال لها : طلقي نفسك فقالت : أنا طالق فإنه لم يقع به شيء إلا إذا كان العرف يستعمل صيغة المضارع في الطلاق أو نوت به إنشاء الطلاق لا الوعد بالطلاق في المستقبل .
وأما التفويض بقوله : اختاري فإنك قد عرفت أنه كناية ولا يقع به شيء إلا إذا نوى ثم إنه إذا نوى به ثلاثا فإنه لا يصح وذلك لأن معنى اختيار نفسها في هذه الحالة تخليصها من قيد الزوجية والذي يخلصها من قيد الزوجية هي البينونة فالبينونة هي التي يستلزمها لفظ الاختيار فهي مقتضى اللفظ ومقتضى اللفظ لا عموم له لأنه ضروري فيقدر بقدر الضرورة وهي البينونة الصغرى فلا تصح نية الكبرى لعدم احتمال اللفظ إياها وهذا بخلاف ما إذا قال لها : أنت بائن ونوى به الثلاث فإنه يصح ويلزمه ما نواه فإن لفظ البينونة مذكور . فلا مانع من إرادة العموم منه ومثل ذلك ما إذا قال لها : أمرك بيدك فإنه إذا نوى به الثلاث يلزمه ما نواه كما تقدم في مبحث الكنايات .
فإذا قال لها : اختاري ونوى به الطلاق وقالت : اخترت نفسي فإنه يقع به واحدة بائنة لأنه كناية وإذا قالت : أنا أختار نفسي بصيغة المضارع فإنه يقع به طلاق بائن أيضا وهذا بخلاف ما إذا قالت : أنا أطلق نفسي فإنه لا يقع إلا إذا نوت إنشاء الطلاق أو كان العرف يستعمله في الطلاق كما تقدم قريبا .
ويشترط في إيقاع الطلاق بلفظ اختاري أن يذكر الزوج أو المرأة أحد لفظين . إما النفس وإما الاختيارة بأن يقول لها الزوج اختاري نفسك أو يقول لها : اختاري وهي تقول : اخترت نفسي . أو يقول لها : اختاري اختيارة فتقول : اخترت أو يقول لها اختاري فتقول : اخترت اختيارة وذلك لأن ذكر اختيارة يقوم مقام ذكر النفس ومثل ذلك ما إذا قال لها : اختاري أمك أو اختاري طلقة فتقول : اخترت وإذا قال لها : اختاري فقالت اخترت أبي أو أمي أو أهلي أو الأزواج فإنه يقوم مقام ذكر النفس فيقع به البائن .
أما إذا قال لها : اختاري فقالت : اخترت ولم يذكر واحد منهما النفس أو الاختيارة أو الأب أو الأم أو نحو ذلك من الألفاظ التي تقدمت فإنه لا يقع به شيء والشرط ذكر ذلك في كلام أحدهما لا في كلام الزوج خاصة فإذا قالت : اخترت زوجي لم يقع شيء ولو قالت : اخترت زوجي ونفسي فإنه لا يقع أيضا لأن ذكر زوجها أولا أبطل اختيار نفسها فلو عكست قالت : اخترت نفسي وزوجي فإنه يقع لأن ذكر نفسها أولا أبطل اختيار زوجها وإذا قالت : اخترت نفسي أو زوجي فإنه لا يقع لأن - أو - لأحد الشيئين فلا يدري إن كانت قد اختارت نفسها أو زوجها فيكون ذلك منها اشتغالا بما لا ينبغي فيعد إعراضا وإذا قال لها : اختاري نفسك ثم قال لها : إن اخترتني أعطيك كذا من المال فاختارته بطل اختيارها ولا يلزم زوجها المال الذي جعله لها .
( يتبع . . . )