ومنه ما إذا قال الشخص : أنا مؤمن إن شاء الله وهذه لا يصح أن يكفر قائلها إلا إذا نطق بها على سبيل الشك بأن كان شاكا في إيمانه أما إذا ذكرها تبركا أو تفويضا لله في كل الأمور فإنه لا شيء فيها نعم ينبغي للشخص أن لا يأتي بهذه الكلمة في الأعمال المطلوبة منه جزما كي يكون في حل من عدم فعلها ويوجب شك طالبها ومن ذلك أن يقول الإنسان لشخص لا يمرض : إن الله - لا يفتكره - أو هو منسي من الله وهذه الكلمة وإن كانت قبيحة ولكن صاحبها لا يكفر إلا إذا قصد معناها المتبادر منها وهو أنه يجوز على الله النسيان أما إذا كان غرضه أن الله لا يحب هذا الرجل الذي لا يمرض فلا يكفر ذنوبه بالمرض فإنه لا يكفر وإن كان قائلها جاهلا ينبغي لمن سمعه من العارفين أن يعلمه ما يقول .
فهذه أمثلة مما ذكره مؤلفو الفتاوى . فينبغي النظر فيما ذكروه على هذا الوجه .
وبالجملة فالمحققون من الحنفية صرحوا بأنه لا يجوز تكفير المسلم إلا إذا لم يمكن تأويل كلامه فلو قال : كلمة تحتمل الإيمان من وجه . والكفر من وجوه تحتمل على الإيمان حتى قالوا : إذا قال كلمة أو عمل يستلزم ظاهره الكفر ولكن وجدت رواية ضعيفة يحمل بها على الإيمان لا يصح المبادرة بتكفيره نعم إذا فعل ما لا يمكن حمله على الإيمان كأن مزق مصحفا وألقاه على الأرض لغيظ أو غضب من حالة عصبية وهو مؤمن فإنه يؤاخذ به مع اعتقاده بالنسبة لزوجته لأن بينونتها منه بذلك حق من حقوقها ولا يمكن للقاضي أن يدخل إلى ما في نفسه بل لا بد من معاملته بظاهر أمره في حق هذه المرأة أما الذي يمكن تأويله فإن فاعله أو قائله يؤمر بالتوبة والاستغفار وتجديد عقد زوجته احتياطا فإن أبت فلا تمكن من غرضها ولا تجبر على التجديد .
ومن سب دين مسلم فإنه يحمل على أمرين : أحدهما سب نفس الشخص وأخلاقه التي يتخلق بها ومن أراد ذلك فإنه لا يكفر . ثانيها : سب نفس الدين وتحقيره ومن أراد ذلك فإنه يكفر وبذلك لا يمكن الجزم بتكفير من شتم الدين فلا يترتب عليه أحكام المرتدين .
ومن سب النبي A صريحا أو عرض بمقامه الكريم أو سب نبيا من الأنبياء أو سب جبريل وميكائيل فقد اختلف فيه قولين : أحدهما أنه يقتل حدا ولا تقبل توبته كما يقول المالكية ثانيها : أن حكمه حكم المرتد الذي سب خالقه فإن تاب وإلا قتل وهذا هو الذهب الذي عليه المعمول وإن كان سب الرسول صلى الله وعليه وسلم من أشنع الجرائم وأقبحها وأن الذي يقدم عليه وعنده مثقال ذرة من العقل لا يرجى منه خير فإعدامه خير من بقائه .
أما السحر فإن تعريفه الذي عرفه المالكية يجعل الحكم في أمره واضحا فإنه إن كان مشتملا على عبارات أو عمال مكفرة فإن صاحبها بها بلا كلام وإلا فإن ترتب عليه ضرر كان حراما يكفر مستحله وإلا شيء فيه ولا فرق بين أن تكون الآثار المترتبة عليه حقيقة أو تكون خيالا لأن الحكم في هذه الحالة على الأقوال والأفعال الصادرة من المكلف وكل ما ذكر في كتب الحنفية خاصا بالسحر لا يخرج عن هذا وكذلك ما نقل الشافعية وقد صرع بعض المحققين من الحنفية أنه ينبغي العمل بمذهب الشافعية في هذا الموضوع وهو لا يخرج عن هذا .
المالكية - قالوا : في الجواب عن الأول والثاني : إذا ارتد الزوج فرق بينه وبين زوجته أما إذا ارتدت هي فإن قامت القرائن على أن غرضها الاحتيال على الخلاص منه فإنها لا تبين منه بل تعامل بنقيض قصدها فإذا ارتد الزوج ليخلص من زوجته فإنه يعامل بقصده وتبين منه وذلك لأن بيده طلاقها فما كان أغناه عن الردة ليخلص منها .
أما الجواب عن الثالث وهو : هل الفراق بالردة فسخ أو طلاق ؟ فإن فيه أقوالا ثلاثة : أحدهما : أن الردة نفسها طلاق بائن . فمتى ارتد بانت منه امرأته كما لو طلقها طلاقا بائنا ويجب التفريق بينهما فورا وهذا هو المشهور . القول الثاني . أن الردة طلاق رجعي وعلى القول الثاني أنه إذا تاب وهي في العدة يراجعها بدون عقد جديد أما على القول الأول فلا بد تجديد العقد . القول الثالث : أن الردة فسخ لا طلاق والفرق بين القول الثالث والقولين الأولين أن القول الثالث يقتضي بقاء الطلقات الثلاث بيد الزوج إن تاب ورجع لها أما على القول فإن عدد الطلاق ينقص بالردة كما بيناه في مذهب الحنفية .
وأما الجواب عن السؤال الرابع : وهو ميراث المرتد فهو أن المرتد لا مال له لأن الردة توجب الحجر على المرتد فبمجرد ردته يحجر عليه الإمام أو نائبه ويحول بينه وبين ماله والتصرف فيه ثم يطعمه منه بقدر الحاجة ولا ينفق منه على أولاده ولا على زوجته لأنه يعتبر في هذه الحالة معسرا ثم يستتاب فإن تاب ورجع إلى الإسلام يرفع عنه الحجر ويخلى بينه وبين ماله على المشهور فيتصرف فيه كما كان قبل ارتداده أما إذا أصرع على ردته وقتل كافرا فإن ماله يصير فيئا لبيت مال المسلمين ولا يرثه أحد .
وأما الجواب عن السؤال الخامس فهو أنه إذا ارتد قبل دخوله بالمرأة فلها نصف المهر على القول بأن الردة طلاق أما على القول بأنها فسخ فلا صداق لها كما إذا كانت الردة من قبلها . أما بعد الدخول فلها كل المهر لأنه يتأكد بالدخول ولا يسقط .
وأما الجواب عن السؤال السادس فهو أن المرتد سواء كان رجلا أو امرأة يجب أن يطلب منه الحاكم أن يتوب ويمهله مدة ثلاثة أيام من غير ضرب أو معاقبة بتجويع وتعطيش فإن تاب برجوعه إلى الإسلام فلا يقتل وإن لم يتب حتى مضت الأيام الثلاثة بغروب اليوم الثالث قتل ذكرا كان أو أنثى حرا كان أو رقا فلا يقر على كفره بجزية بخلاف أما إذا كان على غير دين الإسلام بحسب الأصل فإنه يقر بالجزية ولو ارتد أهل مدينة استتيبوا ثلاثة أيام فإن لم يتوبوا فإنهم يقتلون ولا يسبون ولا يرقون ثم إن المرأة المتزوجة تستبرأ بحيضة قبل قتلها لجواز أن تكون حاملا . واستبراء الحرة هنا عدة لها فعدة المرتدة حيضة واحدة أما إذا ارتد هو وهي مسلمة فإن عدتها كغيرها وذلك لأن الحيضة يثبت بها أنها غير حامل وما زاد على ذلك فهو أمر تعبدي والمرتدة ليست أهلا للتعبد بخلاف ما إذا كانت مسلمة والمرتد زوجها وقد علمت أن زوجة المرتد لا نفقة لها عليه لأنه لا مال في حال ردته .
وأما الجواب عن السؤال السابع : فإن المالكية قالوا : إن ما يوجب الردة ينقسم إلى ثلاثة أقسام : .
الأول : أن يقول كلمة كفر صريحة كقوله : إنه كفر بالله أو برسول الله أو بالقرآن أو يقول : إن الإله اثنان أو ثلاثة أو المسيح ابن الله أو عزير ابن الله .
الثاني : أن يقول لفظا يستلزم الكفر استلزاما ظاهرا وذلك كأن ينكر شيئا معلوما من الدين بالضرورة كفرضية الصلاة فإنه وإن لم يكن كفرا صريحا ولكنه يستلزم تكذيب القرآن أو تكذيب رسول الله A أو يقول : إن الله جسم متحيز في مكان لأن ذلك يستلزم أن يكون الإله محتاجا للمكان والمحتاج حادث لا قديم ومن ذلك ما إذا أحل حراما معلوما من الدين بالضرورة كشرب الخمر والزنا واللواط وأكل أموال الناس بالباطل وغير ذلك .
الثالث : أن يفعل أمرا يستلزم الكفر استلزاما بينا كأن يرمي مصحفا أو بعضه ولو آية في شيء مستقذر تعافه النفس ولو طاهرا كالبصاق والمخاط ويلطخه به بأن يبصق عليه أو يراه ملطخا بالأقذار وهو قادر على إزالتها عنه فلم يفعل وتركه استخفافا وتحقيرا فمدار الكفر على الاستخفاف والتحقير ولكن يحرم أن يفعل ما في صورة التحقير وإن لم يقصده كأن يبل أصبعه بالبصاق ليسهل به تقليب ورق المصحف ومن الفعل المستلزم للكفر شد الزنار وهو حزام خاص به أشكال مختلفة يشد به النصارى وسطهم ليمتازوا به عن غيرهم فإذا لبسه المسلم فإنه يكفر بشروط .
الشرط الأول : أن يلبسه محبة لدينهم وميلا لأهله فيكون معنى لبسه لهم خروجا من جماعة المسلمين إلى جماعة الكافرين فإذا لبسه لغرض آخر غير ذلك كأن لبسه هازلا . أو نحو ذلك . فإنه لا يكفر ولكن يحرم عليه فعل ذلك .
الشرط الثاني : أن لا تضطره الضرورة إلى لبسه كما إذا وجد في بلادهم لضرورة ولم يجد لباسا سواه .
الشرط الثالث : أن ينضم إلى لبسه عمل آخر من أعمال ديانتهم كمشي إلى الكنيسة أو تعظيم للصليب أو نحو ذلك فإن لبسه ولم يفعل ذلك فإنه لا يكفر على الراجح ومثل الزنار في حكم لبس كل ما يختص بالكافر من الملابس .
هذا وقد ذكر المالكية وراء ذلك أمورا مكفرة : منها القول بقدم العالم بالزمان فإن ذلك يقتضي أن يكون مكرها على إيجاد العالم لأنه يكون علة فيه والعلة مكرهة على إيجاد معلولها ووصف الإله بالإكراه نقص ومن وصف الإله بصفة نقص فقد كفر وظاهر كلامهم أن من قال كلمة لا يقصد بها نقصا فإنه لا يكفر . ومنها السحر فإنه يوجب الكفر وقد اختلفوا في تفسيره وحكمه فقال بعضهم : إنه كلام مؤلف يعظم به غير الله تعالى وتنسب إليه مقادير الكائنات وهو بهذا المعنى ردة ظاهرة وذلك لأن المراد بالكلام العبارات التي يقولها الساحر تعظيما للشياطين ويوقع في عقائد الناس أو هو يعتقد أنها هي المؤثرة في الكائنات ومن ذلك ما يفعله بعض فاسدي الأخلاق المدعين للسحر من وضع المصحف تحت قدمه عند قضاء حاجته أو إهانة الملائكة بالسب فإن ذلك من أشنع الكفر وأرذله وقال بعضهم في تفسيره : إنه أمر خارق للعادة ينشأ عن سبب معتاد وقوله : عن سبب معتاد أخرج به المعجزة والكرامة لأن سببهما غير معتاد وعلى هذا إن كان السبب هو العبارات الفاحشة التي يعظم بها الشياطين والأعمال المنكرة التي يهان بها الدين فإنه يكون ردة قبيحة بلا كلام وإن كان بالعبارات الخالية من ذلك كالأسماء الإلهيه ونحوها فإنه يفصل فيه إن ترتب عليه ضرر لمظلوم غافل . أو إساءة إلى بريء في نفس أو مال فإنه يكون محرما ويؤدب فاعله وإلا فلا .
وعلى هذا يكون السحر المكفر هو العبارات أو الأفعال الشاذة التي ذكرناها بقطع النظر عما يترتب عليها من الآثار الضارة فهي بطبيعتها من أقبح أنواع الكفر . كما ذكرنا أما الأضرار التي تترتب على السحر الذي يكون بالوسائل الصحية كالأسماء الإلهية والأعمال الخالية من سب الدين أو إهانته فإنها توجب تأثيم فاعلها إثما كبيرا إن ترتب عليها ضرر وإذا ظهر أمره يؤدب وهذا المعنى المراد للفقهاء من السحر واضح جلي لا يحتاج إلى كبير فلسفة في بيان معنى السحر ووسائله ولعل هذا المراد بقوله تعالى : { ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } فالمراد بالسحر العبارات الفاسدة والأعمال المنكرة التي ترضي الشياطين فتعمل من الخبائث ما هو داخل تحت قدرتها .
وأما حكم الساحر الكافر فقد اختلف فيه على قولين : أحدهما أن يقتل حدا لا كفرا كالزنديق ومعنى ذلك أنه لا يستتاب وإذا تاب لا تقبل توبته لأن الزنديق - وهو من يظهر الإسلام ويبطن الكفر - لا تقبل توبته وميراثه لورثته المسلمين بخلاف المرتد كما تقدم . ثانيهما : أنه إذا أظهر السحر طلب منه التوبة والرجوع إلى الإسلام كالمرتد فإن أبى قتل ولا يقتل حتى يثبت أنه قال أو فعل سحرا مكفرا ولا يقتله إلا الإمام .
واعلم أن الزنديق الذي لا تقبل توبته هو الذي يخفي الكفر كالمنافق ثم يطلع عليه الشهود العدول وهو غافل أما الذي يظهر زندقته ويجيء تائبا وحده فإن توبته تقبل والفرق ظاهر لأنه في الحالة الأولى لا يمكن الوثوق به إذ لعله يظهر التوبة في العلانية وهو مستمر على حاله في السر .
ومن الأمور المكفرة التي لا تقبل التوبة عند المالكية سب النبي A أو التعريض بمقامه الكريم ولا ينفع فيه أن يقول : إنه لم يتعمد . أو كان غضبانا فلا يدري أو كان متهورا في كلامه فسبق لسانه أو غير ذلك فمن وقع منه شيء من ذلك قتل حدا لا كفرا فلا يسقط عنه القتل بالتوبة والرجوع إلى الإسلام لأن سب النبي A جزاؤه الإعدام حدا والحدود لا تسقط بالتوبة ومثل ذلك ما إذا سب معصوما من الأنبياء والمرسلين والملائكة وإذا سب هؤلاء اليهودي أو النصراني فإنه يقتل أيضا ما لم يسلم لأن الإسلام يجب ما قبله أما من سب من لم يجمع على نبوته أو على كونه من الملائكة كهاروت وماروت ومريم وآسية وذي القرنين ولقمان وخالد بن سنان فلا يكفر ولكن يؤدب لأنه فعل محرما .
الشافعية - قالوا : في الجواب عن الأول والثاني : إذا ارتد الزوجان أو أحدهما فلا يخلو إما أن تكون الردة قبل الدخول أو بعد الدخول فإن كانت قبل الدخول انقطع النكاح بينهما حالا لعدم تأكيد النكاح بالدخول وإن كانت بعد الدخول فإن النكاح لا ينقطع حالا فتقف الفرقة بينهما فإن أسلما أو أسلم المرتد منهما قبل انقضاء عدة المرأة دام النكاح بينهما وإلا انقطع النكاح من حين الردة سواء أسلما بعد انقضاء العدة أو أسلما في نهاية جزء منها بحيث يكون الإسلام مقارنا لانقضاء العدة أو يسلما ولا فرق في ذلك بين أن تكون المرتدة الزوجة أو يكون المرتد الزوج وليس معنى هذا أنهما يؤخران حتى تنقضي عدة الزوجية كلا فإنك ستعلم أنهما يعاقبان على الردة فورا بل هذه صورة فرضية بمعنى أنه لو فرض بقاؤهما من غير قتل أو إسلام إلى قبل انقضاء العدة وأسلما بقي النكاح بينهما مستمرا والمراد بالدخول هنا الوطء سواء كان في القبل أو الدبر أو ما يقوم مقامه وهو إدخال مني الرجل في فرجها بغير وطء كأنبوبة ونحوها ولا يلزم من عدم انقطاع النكاح بقاء ملك النكاح كما هو بحيث يحل وطؤها كلا بل يحرم وذلك لتزلزل ملك النكاح بالردة ولكن لا يحدان بالوطء في هذه الحالة لشبهة بقاء العقد بل يعزران لارتكاب الحرام ويحب العدة من أول هذا الوطء .
( يتبع . . . )