والحاصل : أن في ذلك طريقين أحدهما : أنه لا يجوز توكيله ولا توكيله مطلقا وعلى ذلك الشرط الرشد . ثانيهما : أنه يجوز أن يتوكل عن غيره ولا يوكل هو عنه . أما المرأة الذي يضارها زوجها فلا خلاف في صحة توكيل الغير عنها .
الثالث : البلوغ ولا يصح بين صبيين ولا بين صبي وبالغ أما إذا كانت صغيرة متزوجة وأرادت أن تخاصم زوجها أو وليها فإن توكيلها يكون مقبولا بل لازما كما عرفت .
فهذه الشروط هي التي تلزم الوكيل والموكل .
أما الإسلام فإنه ليس شرطا في الموكل بلا نزاع فيجوز للذمي أن يوكل المسلم عنه ويقع توكيله صحيحا . ولكن هل يصح للمسلم أن يوكل الذمي عنه ؟ .
والجواب : أنه لا يصح وإنما لم يذكر هذا الشرط في الشروط لأن الذمي أهل للتوكيل والتوكل ما دام حرا بالغا رشيدا . ولكن المانع من جملة وكيلا عن المسلم أمر عارض وهو ما عساه أنه يتصرف تصرفا لا تقره الشريعة .
ولهذا قالوا في الشركة : إنه لا يصح للمسلم أن يشارك الذمي إذا كان بيع الذمي وشراؤه بحضرة المسلم خوفا من أنه إذا انفرد بذلك يدخل في معاملته ربا أو يشتري خمرا أو خنزيرا وذلك لا تقره الشريعة فإذا تأكد من أنه يتعامل بما تحرمه الشريعة وجب عليه أن يتصدق بالريح الذي .
أصابه من شركته فغن شك يستحب له التصدق . أما إذا تأكد من حسن معاملته ومطابقتها لأحكام الشريعة الإسلامية فإنه لا شيء عليه .
ومثل الذمي في ذلك المسلم الذي لا يحافظ على دينه فالمانع من توكيل الذمي هو الخوف من تصرفا لا يطابق الشريعة الإسلامية وواجب على المسلم أن يحتفظ بدينه فلا يصح له أن يبيح لغيره التصرف باسمه فيما لا يقره الدين ولهذا اعتبر المسلم الذي لا يحافظ على دينه كالذمي .
وأما الشروط المتعلقة بالموكل فيه فإنها ترجع إلى شيء واحد وهو أن يكون من الأمور التي تقبل شرعا ولا تتعين فيه شراء ولا تتعين فيه مباشرة له بنفسه فيجوز لشخص أن يوكل عنه غيره في عقد بيع وشراء وإجارة ونكاح وصلح ومضاربة ومساقاة عقد يجوز فسخه كما في المزارعة قبل رمي البذر فإنه يصح لأحد العاقدين فسخه يصح له أن يوكل غيره في الفسخ .
ومثل ذلك البيع الفاسد كما إذا باع صبي مميز شيئا فللولي أن يوكل من يفسخه ومن ذلك الطلاق حل لقيد النكاح فيجوز لشخص أن يوكل غيره في طلاق زوجه وفي الخلع كما يجوز له أن يوكل شخصا في إقالة من اشترى منه شيئا . وكذا له أن يوكل في قضاء دين عليه وقبض حق له على الغير . وكذا يجوز له أن يوكل - في حد أو قصاص أو تأديب - فللزوج أن يوكل عنه أباه مثلا في تأديب زوجه إذا تركت الصلاة لأن للزوج عن حق عقوبة زوجه إذا تركت الصلاة فله أن يوكل غيره في ذلك .
ولولي الدم أن يوكل عنه على القتل وللشخص أن يوكل عنه في استيفاء الحدود والعقوبات .
وكذا له أن يوكل في الحوالة كأن يكون مدينا لشخص بكذا وله دين عند آخر فله أن يوكل شخصا في أن يحيل الدائن الذي يطالبه بدينه على المدين الذي له دين . وكذا يصح التوكيل على أن يبرئ شخصا من حق له عليه حتى ولو كان الحق مجهولا عند الجميع لأن الإبراء من الحقوق لا يتوقف على علمها .
وليس له أن يوكل غيره في العبادات إلا في المالية منها كأداء الزكاة فإنه يصح التوكيل في أدائها وقد اختلف في الحج فقيل ويصح فيه التوكيل وقيل لا يصح كما تقدم .
وهل يصح لصاحب الوظيفة الدينية أن ينيب عنه كالمؤذنين والإمام والقارئ في مكان خاص ؟ .
والجواب : انه يجوز التوكيل فيها حيث لم يشترط الواقف عدم النيابة فيها .
أما إذا لم يشترط عدم النيابة فيها فإن الأجرة تسقط ولا يستحقها ولا النائب .
أما إذا لم يشترط عدم النيابة فالأجرة تكون للأصل وهما على ما تراضيا عليه معا كانت النيابة لضرورة أو لغير ضرورة . ويلتحق بالعبادات الشهادة والإيمان فليس له أن يوكل عنه من يؤدي الشهادة بدله ولا يحلف اليمين عنه . ومثل ذلك الإيلاء واللعان فإنه لا يصح له أن يوكل عنه من يولي من امرأته بأن يحلف أن لا يقربها مدة معلومة أو من يلاعن عنه مع امرأته التي يتهمها بالزنا كما هو مبين في محله لأن اللعان شهادات مؤكدة باليمين وذلك لا تصح فيه الوكالة .
ولا تصح الوكالة في المعاصي كالسرقة والظهار كأن يقول له : وكلتك في أن تظاهر من امراتي فإن الظهار منكر من القول وزور فإذا قال زوجة موكلي عليه أمه لا يصح الظهار .
وبعضهم يقول : إن هذا كالطلاق إذ لا فرق بين ذلك وبين امرأته موكلي طالق فإن كلا منهما إنشاء كالبيع والنكاح فيصح التوكيل فيهما . وهل التوكل في طلاق محرم كما إذا قال له : وكلتك في طلاق زوجي وهي حائض مثل الظهار فلو طلقها الوكيل لا يقع به الطلاق أو لا ؟ خلاف فبعضهم يقول : إنه لا يقع لأنه توكيل على معصية .
وبعضهم يقول : إنه يقع الطلاق في نفسه ليس بمعصبة وإنما حرمته عارضة بسبب الحيض وهذا الخلاف فيما إذا وكله في أن يطلقها حال الحيض . أما إذا وكله في أن يطلقها مطلقا فطلقها الوكيل حال الحيض فغن طلاقه يقع على الموكل اتفاقا لأن أصل التوكيل لم يكن على معصية . وحاصل ما تقدم أن الأفعال التي كلف الشارع بها الناس تنقسم إلى ثلاثة أقسام : .
القسم الأول : ما كان لمصلحة تتعلق بخصوص الفاعل بحيث لو باشر الفعل غيره فأتت المصلحة التي شرع من أجلها فهذا تمنع النيابة قطعا وذلك كالإيمان بالله تعالى فإن الغرض من التصديق بالإله العبودية له وإجلاله وتعظيمه وذلك أمر خاص بالشخص نفسه ومصلحته ترجع إليه بخصوصه فلا يصح أن ينيب فيه غيره .
ومثل ذلك الصلاة والصيام فإنهما ما شرعا إلا لتعظيم الله وإجلاله وإظهار العبودية له تعالى وذلك لا يكون إلا من الشخص نفسه فلا يصح أن ينيب غيره فيه .
وكذا حلف اليمين فإنه ما شرع إلا للدلالة على صدق المدعي وذلك لا يحصل بحلف غيره فلا تصلح النيابة . وكذا النكاح بمعنى الوطء فإن الغرض منه إعفاف النفس عن الفاحشة والمحافظة على الأنساب وذلك لا يحصل بفعل الغير فلا يصح له أن ينيب غيره فيه بخلاف النكاح بمعنى العقد فغن الغرض منه تحقيق سبب إباحة الزوج وهذا السبب بتحقيق مباشرة الشخص بنفسه وبمباشرة وكيله بدون أن تفرت مصلحته الخاصة .
القسم الثاني : ما كانت المصلحة تتعلق بتحقيق الفعل بقطع النظر عن الأشخاص وذلك كرد المغضوب والعارية وقضاء الديون وتفريق الزكاة وإيصال الحقوق لأهلها فإن الشارع طلب من المكلف فعل هذه الأشياء لما فيها من المنافع فمتى وجد الفعل فقد تحققت المصلحة سواء كانت لفعل المكلف أو بفعل وكيله حتى ولو لم يشعر المكلف بفعلها .
القسم الثالث : ماكان مشروعا لمصلحة تتردد بين الفعل من جهة وبين الفاعل من جهة كالحج فإنه شرع لأمرين : .
أحدهما تعظيم الله تعالى وإجلاله والخضوع له وهذه المصلحة متعلقة بالفاعل لا تحصل من سواه .
ثانيهما : إنفاق المال الذي ينتفع به الناس ومصلحة الاتفاق تحقق بحصوله من أي شخص فمن نظر إلى الحالة الأولى ملحقا بالقسم الأول فقال : إن الحج لا تصح فيه الإنابة وبذلك قال مالك : فمن حج عن شخص لا ينفعه في إسقاط الفريضة وإنما له ثواب الإنفاق والدعاء وقد قطع النظر عن الإنفاق لأنه أمر عارض بدليل أن المكي يحج بلا مال .
وأما من نظر إلى المعنى الثاني وهو الإنفاق - كالإمام الشافعي - فإنه يقول بجواز الحج عن الغير وذلك لأن القربة المالية لا تنفك غالبا عن السفر فلا ينظر إلى المكي الذي يحج بلا نفقه لأن ذلك نادر .
وأما الصيغة فلها اعتبارات ثلاثة وذلك لأنه إما أن ينظر إليها بالنسبة إلى جانب الموكل . أو بانسبة إلى جانب الوكيل . أو بالنسبة إلى جانب الموكل فيه . فإن نظر إليها بالنسبة للموكل فإنه يشترط لها أن تدل على معنى الوكالة عرفا أو لغة أو عادة فإذا خالفت اللغة العرف يعمل بالعرف ولا ينظر للغة .
ولا يشترط لها أن تكون بلفظ مخصوص فإذا قال له : وكلتك أو أنت وكيل عني فإنه يصح . وكذا إذا قال له : تصرف عني بالفظ تصح بإشارة الأخرس أو الممنوع عن الكلام بسبب من الأسباب . ومثل انعقاد باعادة أن يكون لأخوين دار مملوكة لهما وقد جرت أحدهما أن يؤجرها ويقبض أجرتها فإنه يعتبر وكيلا عن أخيه ويصدق في دعواه أنه أعطاه من الأجرة ما لم يثبت أنه متعد .
أما إن نظر إلى الصيغة بالنسبة للوكيل فإنه يشترط أن يقترن بها من جانب الوكيل ما يدل على قبول التوكيل . وهل قبول الوكيل يجب أن يكون فورا أو يصح مع التراخي ؟ خلاف . والتحقيق أنه ينظر في ذلك العرف والعادة فإن كانت الصيغة الصادرة من الموكل تستدعي الجواب فورا في العرف فإنه يجب أن يكون قبول الوكيل فورا وإلا فلا .
وأما إذا نظر إلى الصيغة بالنسبة للموكل فيه يجب أن يكون معلوما سواء كانت الوكالة متعلقة بأمر عام كما إذا فوض له التصرف . أو كانت متعلقة بشيء خاص كما إذا وكله في بيع سلعة خاصة أو طلب حق خاص ونحو ذلك .
أما طريق علم الموكل فيه فإنه يكون بلفظ يدل عليه أو لغة وقد عرفت أن العرف مقدم على اللغة إذا خالفها ويقوم مقام اللفظ إشارة الأخرس أو غير القادر بأي سبب فإذا قال له : أنت وكيلي أو كلتك ولم يبين الشيء الذي وكله فيه ولا قرينة تدل عليه ولا عرف بين الناس فيه فإنه لا يكفي في صحة الوكالة وإن كان لفظ وكلتك يدل على الوكالة لغة لأنه اعتبار للغة ما لم يؤيدها العرف فلا بد من بيان الموكل فيه بصيغة عامة أو خاصة .
مثال الأولى : أن يقول له : وكلتك وكالة مفوضة أو وكلتك في جميع أموري أو أقمتك مقامي في أموري أو نحو ذلك مما يدل على التوكيل العام .
ومثال الثانية : أن يقول له : وكلتك في شراء هذه الدار أو المطالبة لي بحقي الذي عند فلان أو نحو ذلك .
ويترتب على الوكالة العامة نفاذ تصرف الوكيل في كل ما لا يضر بالمال للموكل أن يرد تصرفه أو يضمنه ( يلزمه ) شيئا أما ما يضر بالمال لا ينفذ فليس للوكيل أن يتصدق من مال موكله ولا يهبه ولا يفعله ما ينقصه . إلا إذا قال له : وكلتك وكالة مفوضة وكل ما يصدرعنك ينفذ ولو كان ضارا فإن تصرف الوكيل في هذه الحالة ينفذ فيه ضرر بالمال وإن كان يحرم عليه أن يفعل ما يضر بموكله ولو أذنه لأنه أمينة والأمين يجب عليه ألا يضر بمن ائتمنه على أي حال غير أنه لا ينفذ تصرفه إذا كان فيه سفه ويبذير . أما إذا تصرف بمعصية فإن الوكالة تكون من أصلها لما عرفت من انها لا تصح في المعاصي .
ويستثني من الوكالة العامة أمور : .
أحدها : طلاق زوجة الموكل فإنه لا يدخل في التوكيل حتى ولو قال له : كل تصرفك نافذ ولو فيه ضرر وذلك لأن طلاق الزوجة لا بد له عرفا من توكيل خاص بأن يقول له : وكلتك على طلاق زوجتي فلانة أو يشير إليها لأن يقول : وكلتك على طلاق هذه .
ثانيها : تزويج البنت فليس للوكيل أن يزوج بنت موكله إلا بتوكيل خاص بأن يقول وكلتك على زواج بنتي فلانة أو هذه مشيرا إليها .
ثالثها : بيع داره التي يسكنها . فلا بد له من توكيل خاص أيضا بأن يقول : وكلتك على بيع داري الفلانية أو هذه الدار .
رابعها : بيع عبده القائم بأمور فإنه لا يدخل في الوكالة العامة . فهذه الأمور الأربعة لا تدخل في الوكالة العامة بل لا بد فيها من التوكيل الخاص .
الشافعية - قالوا : يشترط في الموكل أن يكون أهلا لمباشرة الشيء الذي يزيد أن يوكل فيه غيره بحيث يصح له أن يتصرف فيه بنفسه وبذلك يخرج الصبي والمجنون والمغمى عليه والسكران المتعدي بسكره والفاسق في تزويج من له عليها الولاية لأن الفسق يسلب الولاية والمعتوه والمجور عليه لسفه في مال ونحوه . والمرأة في عقد نكاح فإنها غير أهل لمباشرته بنفسها بدون ولي فلا يصح أن تنوب عن غيرها فيه ومثلها المحرم في ذلك فإنه ليس له أن يباشر عقد النكاح بنفسه مادام محلاما فلا يصح للغير أن يوكله فيه .
وضابط ذلك أن كل ما جاز للإنسان أن يتصرف بنفسه في شيء جاز له أن يوكل فيه غيره . وكل ما لا يجوز أن يتصرف الإنسان في شيء بنفسه بدون وليه فإنه لا يجوز له أن يوكل فيه غيره ولكن هذا الضابط مبني على الغالب لأنه يستثني من الشق الأول منه مسائل : منها ما إذا ظفر شخص بحق له في دار مغلقة ولا يمكنه الوصول إليه إلا بكسر الباب أو نقب الجدار فإن له أن يباشر ذلك بنفسه وليس له أن يوكل عنه غيره ولو عجز عن العمل ما لم يكن من ذوي الهيئات ولا يليق بحاله أن يباشر ذلك العمل بنفسه فإنه في هذه الحالة يصح أن يوكل غيره فهذا الرجل يجوز له التصرف بنفسه ولا يجوز له أن يوكل غيره .
ومنها : السفيه المجور عليه إذا أذنه بالنكاح فإن له أن يباشر بنفسه وليس له أن يوكل عنه غيره .
ومنها : الوكيل القادر على القيام بالعمل فيما وكل فيه فإن له أن يباشر العمل وليس بوكل عنه غيره إلا إذا كان غير لا ئق به .
وكذلك يستثنى من الشق الثاني مسائل : منها الأعمى فإنه لا يجوز له أن يتصرف في بعض الأعيان التي يتوقف التصرفات فيها على الرؤية ولكنه يجوز له أن يوكل فيها غيره فهذا لا يجوز له التصرف بنفسه ومع ذلك فإنه يجوز له أن يوكل فيه غيره .
ومنها : المحرم بحج أو عمرة فإنه لا يصح له أن يباشر عقد النكاح بنفسه كما تقدم ولكن يصح له أن يوكل عنه غيره ليعقد له عقد النكاح بعد التحلل من الإحرام وسواء نص في التوكل على أن العقد يكون بعد التحلل أو أطلق ولم ينص فإنه يحمل على أن يكون العقد بعد التحلل نعم يجوز لغير المحرم أن يوكل عنه شخصا يباشر له عقد النكاح لأن المحرم في هذه الحالة يكون سفيرا لا يباشر عقدا .
وكما أن الموكل يشترط فيه أن يكون أهلا للتصرف في الشيء الذي يريد أن يوكل فيه غيره كذلك يشترط في الوكيل أن يكون أهلا للتصرف فيما يريد أن يوكل فيه غيره . فكل ما جاز للإنسان أن يتصرف في شيء بنفسه جاز له أن يتوكل فيه غيره . وكل ما لا يجوز له أن يتصرف فيه بنفسه لا يجوز له أن يتوكل فيه عن غيره .
وهذا الضابط أيضا مبني على الغالب تستثني من الشق منه مسائل : .
( يتبع . . . )