( تابع . . . 2 ) : - في الأمور التي تجوز إجازتها والتي لا تجوز تفصيل في المذاهب ( 1 ) .
وقد يقال في زماننا أن الناس يتصرفون عن تعليم القرآن إذا لم يجدوا فيه شيئا يساعدهم على قوتهم فالعلة التي أباحوا من أجلها أخذ الأجرة على التعليم وهي خوف تقليل الحفاظ هي بعينها موجودة في الحفاظ الذين ينفقون الذين ينتفعون من قراءءتهم وقد يكون للإفتاء بجواز أخذ الأجرة على القراءة من هذه الجهة وجه ولكن الذي لا يمكن إقراره بحال إنما هو ما اعتاد بعض القراء من فعل ما ينافي التأديب مع كتاب الله تعالى كتلاوته على قارعة الطريق للتسول به وفي الأماكن التي نهىالشرع عنه الجلوس فيها وتلاوته على حالة تنافي الخشية والاتعاظ بآياته الكريمة كما يفعل بعض القراءة من التغني به في مجالس المآتم والولائم التي نهى الشارع عنها لما فيها من المنكرات وتأوه الناس في مجلسه كما يتأوهون في مجالس الغناء والإمعان في هذه الطريقة الممقوتة حتى أن بعض القراء يحرفون كلمه عن مواضعه تبعا لما يقتضيه نغم وتمشيا مع أهواء الناس وشهواتهم فإن ذلك كله حرام باطل لا يمكن الإقرار عليه بأي حال .
ومن الأشياء التي لا تصح إجازتها الأياء التي تستأجر على خلاف شرائط الإجازة المتقدمة .
ومن ذلك استئجار الشخص بجزء من عمله كأن يستأجر جمالا لينقل له جرنه ويأخذ باقية في نظير أجره أو يعطي طحانا إردبا من الحنطة ليطحنه ويأخذ منه كيلة في نظير أجره فإن كل ذلك ممنوع لأن النبي A نهى عن ذلك ولأن القدرة على تسليم الأجرة شرط في صحة الإجارة وفي هذه الحالة أن يسلم الأجرة لأنه ناطقه بالشيء المعمول فالطحان مثلا لا يمكنه أن يأخذ أجره إلا من الدقيق الذي ينتج من القمح المطحون وهو لم يوجد بعد فإذا وقعت مثل الإجازة وجب فيها أجر المثل بشرط أن لا تزيد على المسمى بينهما .
والحيلة في جواز مثل ذلك أن يفرز أولا ويسلمه للمستأجر كأن يخرج الصوف أو القمح الذي يريد أن يدفعه أجرا ثم يسلمه للمستأجر وهذا جائز .
ومن ذلك إجارة ماء الشرب وحده فإنها لا تصح واقعة على استهلاك عين السمك وإجارة المرعى لتأكل غنمه حشيشها فإن كل ذلك فيه استهلاك للعين فلا تنفع إجارته ولكنه يصح أن يستأجر تبعا لشيء آخر فيصح أن يستأجر القناة تجري فيها الماء فتقع الإجارة على الماء تبعا ويصح أن يستأجر قطعة من أرض المرعى ليجعلها مأوى لمواشيه ( حوش ) ويبيح له مالكها الرعي من حشيشها .
وأما الأشياء المختلف في جواز استئجارها فمنها إجارة الحمام فإن بعضهم يقول : إن أخذ الحمامي أجرة مكروهة من الرجال والنساء . وبعضهم يقول : إنها مكروهة من النساء دون الرجال والصحيح أنها جائزة بلا كراهة لحاجة الناس إليها وربما كانت حاجة النساء إليها أكثر من لنفاسهن وضعفهن إنما الذي ينبغي النهي عنه هو كشف العورة فيها سواء كان من فيها نساء أم رجال إذ لا يحل للنساء أن ينظرن إلى عورة بعضهن كما لا يحل للرجال على التفصيل المتقدم في مباحث ستر العورة فعلى من يدخل الحمام أن يحتاط في ستر عورته وأن يغض بصره عن النظر إلى عورة غيره وإلا فقد فعل ما لا يحل له فعله سواء أكان ذلك في الحمام أو غيره .
ومنها أجرة الحجام فقد قال بعضهم بكراهية لما ورد من أن النبي A قال : " كسب الحجام خبيث وثمن الكلب خبيث ومهر البغي خبيث " والصحيح أنها جائزة بلا كراهة لما رواه البخاري من أن النبي A احتجم وأعطى الحجام أجره ولو كان مكروها لم يعطيه والحديث الأول منسوخ بما ورد أن رجلا " وقال يا رسول الله إن لي عيالا وغلاما حجاما أفاطعم عيالي من كسبه ؟ قال : نعم " وأيضا فإن حديث البخاري مروي عن ابن عباس وحديث النهي رواه في السن عن أبي رافع .
ومما لا شك فيه أن ابن عباس أعلم وأضبط وأفقه فيعمل بحديثه على أنه إذا اشترط الحجام أجرا معينا كره ذلك فيمكن حمل الكراهة على ذلك .
ومن ذلك أجرة السمسار والدلال . فإن الأصل فيه عدم الجواز لكنهم أجازوا الناس إليه كدخول الحمام على أن الذي يجوز من ذلك إنما هو أجر المثل .
فإذا اتفق شخص مع دلال أو مع سمسار على أن يبيع له أرضا بمائة جنيه على أن يكون له قرشين في كل جنيه مثلا فإن ذلك لا ينفذ وإنما الذي ينفذ هو أن يأخذ ذلك الدلال لأجر مثله في هذه الحالة .
هذا وتصح إجارة الماشطة لتزيين العروس بشرط أن يذكر العمل أو مدته في العقد .
وإذا استأجر شخص عاملا يمكن تعيين عمله كخياط ليخيط له هذا الثوب بكذا أو خباز ليخبز هذه الأرغفة بكذا أو هذا الإردب فإنه لا يصح له أن يجمع مع هذا التعيين الوقت فيقول خطه اليوم أو غدا أو اخبزه اليوم أو بعد ساعتين فإذا تأخر عن هذا الموعد يكون بأجرة أقل وإنما لا يجوز ذلك لأنه يفضي إلى المنازعة بأن يقول العامل المنفعة المعقودة عليها إنما هي العمل وذكر الوقت للحث على العجيل وحيث قد تم العمل في اليوم أو بعده فإنني استحق عليه الأجر كاملا ويقول المؤجر كلا بل المنفعة المعقود عليها مقدورة بالوقت فالمعقود عليه هو الوقت وحيث لم توجد قيمة المنفعة فلا تستحق الأجرة كاملة فلذا قبل بفساد العقد . نعم إذا قال على أت تفرغ منه أو تخيطه في اليوم فإن العقد ألا يفسد ويعتبر العقد على العمل وذكر هذه الكلمة يكون الغرض منه إنجاز العمل والفرقأن قوله في اليوم معناه أن تعمل في اليوم ولا يلزم أن يعمله جميعه في اليوم . وقوله على أن تفرغ منه اليوم يفيد أن ذكر اليوم ليس مقصودا كالعمل فيكون الغرض من التعاقد إنما هو العمل وأما كونه يفرغ منه اليوم فهو أمر ثانوي معناه اسعجال العمل على أن بعضهم يقول إن الإجارة لا تفسد بذلك مطلقا ولو قال اليوم بدون في أو على ويقع العقد على العمل ويكون الغرض من ذكر الوقت الحث على التعجيل .
ويجوز أن يقول شخص لآخر إن خطت لي الثوب في هذا اليوم فتكون أجرته درهما وإن خطته غدا تكون أجرته نصف درهم . وإن سكنت هذه الدار حدادا فبعشرة وإن سكنتها عطارا فبخمسة . وهكذا في كل ما فيه ترديد الأجرة بالنسبة للزمان والمكان والمسافة .
المالكية - قالوا : الأشياء المستأجرة تنقسم إلى ثلاثة أقسام : قسم ممتنع فلا يصح استئجاره وقسم جائز وقسم مكروه .
فالقسم الأول : وهو الممتنع فهو ما خالف شرطا من شروطها وقد تقدم بيان كثير منه وبقيت أمور : أولها كراء الشجر لأخذ ثمره لأن فيه استفياء عين وهو الثمر قصدا لا تبعا وهو بيع عين قبل وجودها وذلك باطل . أما الشاة لأخذ لبنها فقد مر بيانه في الكلام على المنفعة فارجع إليه .
وإذا استأجر دارا فيها نخلة أو كرمة فإن كان ثمرها قليلا واشترط المستأجر لأن تكون تابعة للدار في الإجلرة فإنه يغتفر تأجيرها وأخذ ثمرتها بشرط أن لا يزيد ثمن الثمر عن ثلث الأجرة . وذلك بأن تقوم الدار بغير الثمر فإن كانت عشرة وقيمة الثمر بعد إسقاط ما أنفق على الشجر من سقي ونحوه فإنه يصح في هذه الحالة أخذ الثمن لأن الخمسة إذا أضيفت إلى الأجرة وهي عشرة كان المجموع خمسة عشرة والخمسة ثلثها فيصح أخذه حينئذ أما إذا كانت قيمة أكثر من خمسة فإنه لا يصح لأن القاعدة من مذهب مالك أن كل شيء يمكن قليله من كثيره فثلثه والقليل يتسامح فيه ويستثنى من هذه القاعدة أمور ثلاثة : .
( 1 ) الآفات التي تصيب الثمرة المبيعة فغن ثلثها ليس من القليل .
( 2 ) مساواة المرأة للرجل في دية الجراحة .
( 3 ) ما تحمله العاقلة من الدبة .
ثانيها : الإجازة على التعليم الغناء فإنها لا تصح والغناء بالمد التطريب بالأهوية المعروفة في علم الموسيقى وقد عرفت في مباحث الوليمة أن المالكية لا يبحون سماع شيء من الغناء إلا إذا كان على وزان : .
أتيناكم أتيناكم ... فحيونا نحيكم .
إلى أخره .
وكل ما لا يباح لا يصح تأجيره أما غيره فلهم فيه تفصيل فما كان منه مباحا فإنه يصح الأجرة على تعليمه عندهم . ومن ذلك أجرة آلات الطرب كالعود والمزمار فإن استعمالها وسماعها حرام فكذلك ثمنها وإجارتها .
ثالثهما : إجارة النائحة ( المعددة ) فإنه حرام بلا خلاف .
رابعهما : إجارة الدجالين الذين يزعمون أنهم يخبرون عن المسروق ويردون الضائع فإنها لا تحل ومثله الاستئجار على حل المربوط ( العاجز عن إتيان امرأته ) فغن اسئجاره لا يحل وقيل يحل إن تكرر نفعه .
خامسها : استئجار الحائض لكنس المسجد فإنه لا يحل .
سادسها : إجارة الدكان ليباع فيه الخمر والحشيش ونحوه مما يفسد العقل أو يضر بالبدن فإنها لا تصح وكذلك إجارة المنازل لتتخذ بيوتا للدعارة أو محلا للفسق أو نحو ذلك . وكما لا تصح إجارتها كذلك لا يصح بيعها على ثمنها المعتاد إن باعها بثمن زائد عنه .
سابعها : الإجارة على طاعة مطلوبة من الأجير ( طلب عين لا طلب كفاية ) إذا كانت لا تقبل النيابة كالصلاة والصيام سواء كان طلبها على سبيل الوجوب أو على الندب . فلا يصح الاستئجار على صلاة ركعتي الفجر والوتر .
أما ما يقبل النيابة كالحج وقراءة القرآن وأذكار والتهليل ونحوها ففيها خلاف مبنى على وصول ثوابها للميت . فبعضهم يقول : إنها تصل فالإجارة عليها صحيحة وبعضهم يقول : إنها لا تصل فالإجارة عليها لا تصح والمنقول عن الإمام مالك أنها لا تصل وأن الإجارة عليها لا تصح ولكن الظاهر من قول أصحابه الميل إلى الميل إلى أنها تصل عملا بحديث رواه النسائي : " من دخل مقبرة وقرأ قل هو الله أحد إحدى عشرة مرة وأهدى ثوابها لهم كتب الله له من الحسنات بعدد من دفن فيها " فلو لم يكن ثواب القرآن ينفع الميت ويصل إليه لما حث النبي A قل هو الله أحد للأموات .
أما الأعمال المطلوبة من المكلف على سبيل الكفاية كتكفين الميت وتغسيله ودفنه فيجوز الإجارة عليها بلا خلاف فما يأخذه ( الحانوتية ) على تغسيل الموتى وحملهم ودفنهم من الأجرة ( جائز ) .
ثامنها : تأجير العامل الذي يجني الزيتون أو النبق ونحوهما أو يعصره زيتا بجزء مما يخرج منه فلو قال له انقض لي هذه الشجرة يختلف في ذلك فمنه ما يسقط من ثمره بالهز كثيره ومنه ما يسقط قليل فيكون القدر الذي ينزل منه مجهول .
وكذا إذا قال له اعصر هذا الزيتون أو الرقطم ولك جزء مما يخرج منه فإنه لا يصح لأن القدر الذي يخرج من الزيت مجهول وصفة الزيت الخارج بالعصر مجهولة إذ يمكن أن يكون جيدا وأن يكون رديئا ثخينا أو رقيقا نقيا أو مشوبا ينقصه .
وبعضهم يقول إذا قال له انفض الثمر الذي على هذا الشجر كله ولك سدسه مثلا فإنه يجوز فإذا وقع شئ من هذا فإن للعامل أجر مثله وجميع الثمر أو الزيت لصاحبه فإن اقنسما كان ما يأخذه العامل حراما أما ما يأخذه رب العمل فهو حلالا لأنه كله ملكه .
ومثل ذلك ما إذا قال له أدريس ( هذا الجرن ) ولك ثمن ما يخرج من الحب فإنه إجارة فاسدة للجهل بقدر ما يخرج من الحب . أما إذا قال له احصد هذا الغيط ولك سبعه أو ثمنه فإنه يصح لأن الزرع ظاهر مرئي فيمكنه معرفة القدر الذي بخرج منه .
ثامنها : تأجير أرض صابحة للزراعة ليزرعها با الطهام فإنه لا يصح فإذا اسنأجر فدانا ليزرعه بخمسه ( أرادب ) من القمح أو الذرة أو الشعير أو نحو ذلك مما تنبته الأرض كالعدس والفول وجميع أنواع الطعام فإنه لا يصح أنه يمكنه أن يزرع الأرض من هذا النوع الذى أستأجر به فتؤل المسألة ألى بيع الطعاملأجل منع التفاضل والغرر لأنه يحتمل أن يخرج له من الزرع قدر الأجرة أو أقل أو أكثر .
وكذلك لا يجوز تأجيرها بالطعام الذى لا تنبته كالعسل والجبن واللبن والشاة المذبوحة والشاة التى بها لبن . أما الشاة الحية التى لا لبن بها يجرز أنها ليست بطعام في هذه الحالة ولا يتولد منها طعام كذلك لاتصح بالسمك وطير الماء زعلة ذلك أنه ربما يزرعها طعاما كا القمح والذرة ونحو ذلك فيكون فيه بيع بطعام مخالف له وهو ممنوع .
كذلك لا يجوز تأجيرها بما ينبت منها من غير الطعام كالقطن والكتان والعصفر والزعفران ونحو ذلك لأنه قد يزرع فيها ذلك النوع الذي أجره بها فيكون فيه بيع الزرع بمثله لأجل فإذا وفع فيه شيء من ذلك كان فاسدا وله كراؤها بالنقود .
ويجوز كراء الأرض بالشجر الذي يمكث فيها زمنا طويلا واختلف في جواز كرائها بما ينبت وحده لا بما ينبته الناس كالحلف والحشيش والصحيح لأنه يجوز .
وأما كراء الأرض لأجل بناء عليها دكان عليها جرن فيها جائز وكذلك كراء الدور والدكاكين بالطعام فإنه جائز بلا نزاع لانتفاع الشبه التي تقدمت .
تاسعها : يمنع استئجار صانع على عمل بحيث لو لأتمه في يوم يكون له عشرة وإن لأتمه يومبن يكون له ثمانية لأنه في هذه الحالة يكون قد أجر العامل نفسه بما لا يعرف .
فإذا استأجر خياطا على هذه الحالة وخاط له الثوب فله أجر مثله خاطه في يوم أو يومين فإن اتفق معه على أجرة معينة ثن قال له بعد ذلك عجل وأزيدك كذا فإن كان على يقين من أنه يستطيع الفراغ منه في الموعد الذي حدده فإنه يجوز أما إن كان لا يدري فيكون مكروها .
عاشرها : أن يقول لآخر اعمل على دانتي كأن تحتطب عليها أو تحمل عليها الناس تحمل عليها الحبوب أو نحو ذلك أو يقول له اعمل على دابتي ولم يصرح بشيء مما يحمل عليها ولك نصف ما يتحصل من ثمن ما تحتطبه عليه وتبيعه أة نصف ما تكريها به . وتشتمل هذه الصورة على أربعة أوجه : الأول أن يقول اعمل على دابتي فيعمل بنفسه .
الثاني : أن بقول اعمل عليها فيؤجرها لغيره ليعمل عليها .
الثالث : أن يقول له خذ دابتي فاكرها فيأخذها ويعمل عليها بنفسه .
الرابع أن يقول له خذها فاكرها فيأخذها ويكريها لغيره . والإجلرة في جميع هذه الأوجه فاسدة . فإذا وقع ذلك فحكم الأوجه الثلاثة الأول للعامل جميع ما يتحصل وعليه أجرة المثل لمالكها لأنه في هذه الأوجه يكون قد استأجر الدابة إجارة فاسدة فإذا لم يجد عملا يعمله عليها فبعضهم يقول تلزمه أجرتها مطلقا وبعضهم يقول لا تلزمه الأجرة إذ عاقه عن العمل عائق معروف .
( يتبع . . . )